الجزء الثاني من المقالات شربل بعيني: يطلّ علينا، وكأنه عائد بعد غياب طويل/ نعيم خوري

اديب وشاعر مهجري راحل

يا كلمِةْ الْـ ما يَوْم قرْيِتْها الْعُيُونْ
لفّي عينيْهُنْ بِالعجَبْ
كتابة الشعر أداة معرفة، وسلاح قتال. فإذا كان لا يجوز وضع النور تحت المكيال، فإنه أيضاً لا يجوز اختزان المعرفة في الضباب. وإذا كانت الكلمة هي السلاح، فإن القتال لا يمكن أن يكون في الصمت.
وقد تنقّلت المعرفة، أحياناً، من عالـم الحواس لتدخل مرحلة تأمليّة في وجدان الإنسان، تشاطره معاناته وتطلعاته، وتكثّف فيه الضوء، تعطيه رؤية جديدة، وتفتح له آفاقاً أوسع، ليستردّ وعيه ووضوحه، ويستعيد معناه، فتخرج الكلمة، في تعدّد اتجاهاتها، وكأنها حتميّة تاريخيّة في الخلق والممارسة، تضمن استمرار الحقوق والحريّات.
هكذا تصير الحريّة مداخلة حقوقيّة، ويصير الحقّ سلاح الحريّة الأمضى والأشدّ، وتكون الكلمة شعلة الحتميّة التاريخيّة التي تكون فيها الأرض والإنسان والتقاليد أبداً حاضرة، وأبداً متجدّدة.
إذن، الكلمة هي نحن، شكلاً ومضموناً. الشكل هو المظهر الحضاري للكون، والمضمون هو المحور الأهم للإنسان.
وشربل بعيني، الذي لا يعرف أن يسكت في مناسباته، إلاّ إذا كان السكوت أفضل من الكلام الصامت، في ديوانه الأخير "أحباب"، يطلّ علينا، وكأنّه يعود بعد غياب طويل، يفجّر مخزونه النفسي بصدق ووضوح، حتّى ليبدو، وكأنه والكلمة، قد خرجا من معموديّة واحدة:
عَيْب نِبْقَى هَيْك بِالْعَتْمِه
والنُّور عَمْ بِيئِنّ بِالْقِنْدِيلْ
أعداءنا الإنسان وِالكلْمِه
وأصحابنا التزوير والتّدجيل
.. عيبْ نطفي تْشِرْقُط النّجْمِه
وْعَيْب نترُك هَـ الْوَطَنْ طابِه
بْمَلْعب سْيَاسَات قَال وْقِيلْ
"أحباب" تقرأه من العنوان، من الاسم، يغني المحبّة الجامعة التي تستحقّ الكلمة، فتتوفر لها حلوة أنيقة، وتتألّق بلا مواربة ولا تصنّع أو تعهّر:
بْحِبّك.. بْحِبّك لَيْش تَا خَبِّي
لَوْلاكْ قَصّتْ جانْحِي الْغُرْبِه
.. باعوا الوطَن بالدَّيْنْ
شو ذنبنا نِحْنَا؟..
.. وصار الشّعب شعبَيْنْ
صَار الْحكم حِكْمَيْنْ
وْصَفّى غْراب الْبَيْنْ
يْشَقْلِب مَطَارِحْنَا
وإذا كان الشعر العامي ينمو ويتكاثر في وسط تفتقر فيه الفصحى إلى التطوّر اللغوي، وإلى وفرة في الثقافة، وإلمام شامل في القواعد والمبادىء العامة، يخاطب الشاعر الناس بلغتهم اليوميّة، فيحلو لهم شعره، ويفهمونه، فإن شعر شربل بعيني، على عاميّته، مزيج من اليوميّة، ومن التطوّر اللغوي الزاخر بالصور والألوان والمعاني، الملتزم معطيات الثقافة وخصائصها:
دِنْيِة مَصَالِحْ ما مْنَعْرِف مِينْهَا
عَم تِلْعَب بْإِنْسَانْهَا شْيَاطِينْهَا
بْتِبْرُمْ.. بْتَبْرُمْ.. تَا تْلاقِي صَاحْبَكْ
تارِي الصّحْبِه الْيَوم نَكْرِت دِينْهَا
.. خَيّك رْفِيقَك، ما ضْرُورِي يِقْرَبَكْ
.. الإخْوِه صَدَاقَه مْشَبْشَبِه بِسْنِينْهَا
لوحاته يسكنها الزمن، ويفوح منها عبق المناسبة إلى أزمنة لـم تولد ببال. تحمل البعد التاريخي، بجمالاته وإبداعاته، وتستنبط فيه رموزاً مشعّة لأجيال في طريق التكوين:
زِرْتُو أَنا بِمشْوَارْ
وْحِوّشْت حُرِّيِه
يَا مْجَدِّد الأَشْعَارْ
بِحْرُوف مِضْوِيِّه
كِل ما يْطِلّ نْهَارْ
بْتِكْبَرْ بِـ عِينَيِّي
بعض الشعر العامي يشبه رقصة الأفعى، أو سكرة الموت. في شعر "أحباب" أصالة نفسيّة تتوسّل الإنسان بعقليته الأخلاقيّة الجديدة، وبوعي أفضل للحياة والكون:
تْعَلَّمْ وَجَعْنا الْحَرْف بِصْفُوفُو
تا صارْ يِحْكِي وْيِشْتِكي لْحَالُو
وْلِمِّن عِرِفْ مِتّحَسّنِه ظْرُوفُو
قَلّو بُو طُونِي: يا وَجَع رَنْدِحْ
صَار الْوَجَعْ يِتْمايَل قْبَالُو
...
صَفَّى الْعَالَـم كلُّو مَنْفَى
وْصَفَّى الْخَوْف..
وْصَفَّى وْصَفَّى
لُعْبِه بْإِيدَيْن الشَّيْطَانْ
بهذه النفسيّة يتحوّل الموت إلى فعل حياة، وتصير الحياة عطاء دائـم العافية. الضروري فيها قليل من النسيان، والأساسي ترويض الخلايا على الاستمتاع باستمرارية التذكّر:
لِعْبُوا فِينَا..
تْصَاوِيرْ افْتَكْرُونَا وْصَارُوا
يِمْحُوا الْعِينَيْنْ الْـ عَمْ تِقْشَعْ
يِلْغُوا شْفَافْ الْـ بَدَّا تِحْكِي
يْقِصُّوا الإيدَيْن الْمَرْفُوعَه
بْوِجّ الطّغْيَانْ الْـ عَمْ يِكْبَرْ
.. لكنْ نِسْيُوا إِنّو نِحْنا
من هَـ الدَّمّ الْـ عَم يِتْفَجَّرْ
مْنِقْدرْ نِخْلَقْ جِيل جْدِيدْ
وكم راق لي ألاّ يكون في "أحباب" مكافأة على موقف، أو تزامن في ردّ جميل، ولا هو قصائد فارغة من المضمون والفحوى، بل فيه (خطيئة) شاذّة محيية، في زمن يطفح بالخطايا المميتة، إذ التصق بالإنسان في قيمه ووجوده، شاطره العرق والدم والخبز، كما شاطره الكلمة، مرادفاً للنضال من أجل البقاء:
خايِف مِنْ إِيدَيْهُنْ تِطْوَلْ
.. من ناس بْتِخْلَق بِاللَّيْل
عْيُونُن مَفْتُوحَه وْمَسْطُولِه
وْعَ شْفَافُن صَرْخات الْوَيْل
...
صَابِيعَا تْفَرْفِطْ نَظْرَاتُنْ
.. شُو بدّنا فِيها لا تْرِدُّوا
فسْتانَا مْرَقَّع بِالْوَحْلْ
وْعَمْ يِعْرَقْ جِسْمَا مْطَالِيبْ
...
مْعلّم إِنِتْ.. شو صايْبَكْ زعلانْ؟
وِهموم كلّ الناّاس عَ كْتافَكْ
يللّي زْرَعِت بِقْلُوبْنا الإيمانْ
لازم يزهِّر ورد عَ شْفافَكْ
يا حاضِن الإنجيلْ وِالقرآنْ
بالحُبّ بدّنا نْزَوْزِق غلافَكْ
مِنْشان حَتَّى يِهْتِدي إِنْسَانْ
مِتْعَصّبْ.. بْقَلْبُو الْحِقدْ بُرْكَانْ
تا يْشُوفْ حالُو.. كلّ ما شافَكْ
إن أتعس الشعراء من لا يستطيع مشاطرة الآخرين.
وفي شعر "أحباب" تحدٍّ لزمن يسير القرفصاء، ويدّعي أنه في مواجهة تيّار المألوف والاعتيادي، ومعه تفاجئك، بين الحين والآخر، في بنية القصيدة، هزهزة خفيّة، لا تنمّ عن خلل، بل تكتنفها شفافيّة شعريّة، أشبه ببطاقة فضيّة مفتوحة على نوافذ الشمس، تدعوك إلى ربيع دائـم الروعة والجمال، ليس فيه مسحة كآبة أو مجافاة أو سلبيّ:
الْفَنّ.. تِخْلُطْ حُبّ بِشْوَيِّةْ عَذَابْ
وِتْرِشّ فَوْقُنْ كِلّ ضِحْكَاتْ الْهَوا
وِتْقِصّ مِنْ دُون خَوْف مَشْنِقِةْ الْعَذَابْ
وْتِعْزُمْ شَمِسْ عَ الأَرْض تا يْعِيشُوا سَوَا
أفما قيل: الكلام صفة المتكلّم؟
وإذا كان "أحباب"، في بعض خواصه، يفتقر إلى القلق والتوتّر والغموض الشعري المتأجّج، الذي يستدعي الكثير من التأمّل والتعمّق للكشف عن خصوصيّته ومزاياه، فإن الذي يشفع بهذا النقص هو هذه المرونة الطبيعيّة البريئة التي تعطيه نكهة مميّزة، والتي تجعل من المناسبة امتداداً أبعد من القول، وأوسع من مساحة الذكرى:
وَقْت اللِّي صَرْخِتْ "أُوف" مُوَّالَكْ
صَارِت بِبَعْضَا تْكَبِّش الأَعْلامْ
يَا مَوْطني.. تَا يْحَيّكُوا شَالَكْ
يا شربل، لتكن لبعض الشعر فساتين تتطاير مع رياح الزواريب، وليبقَ شعرك معمّداً باللهب الإنساني، فيشتعل ويحرق عتمات الدروب.
البيرق ـ العدد 212 ـ 5 حزيران 1990
**
شكراً.. ولك محبّتي
.. ويصير قلبي، في جحيم الصمت،
ينبض بالنّضارَه
وكأنّ، في حلقي،
يعيش الفكر أسئلة النظارَه
وكأنّ أوردتي
من اللهب المرفرف في شرارَه
وكأنّ لحمي صار مأدبةً..
وصار اللـه جارَه
فلمحت وجهَكَ، في صباح الوعد،
تنزف من أصابعه الحجارَه.
أنت تفتح نفسك نافذة على الشمس، وباباً على كلّ نفس. من هذه النافذة تشرف على الأرض، ومن الباب تملأ الدنيا، تشقّ لذاتك دروباً مضيئة على الكون، تعتمد، عبرها الوصول إلى الذات الإنسانيّة الكليّة الوجود، التي تكرّس المحبّة مذهباً فوق كل مذهب، وعقيدة تطغى على عقائد العالـم كلّها.
أدركت أنني، بحكم ظروف عملي، في حبس شبه دائـم، فكانت طلّتك صباح كلّ سبت جولة تتناول اهتمامات وهموم الفكر، ومحاولة للخروج بقضيّة الأدب من النفق الضيّق المظلم إلى بشارة الفجر، ليبلغ وجدان الإنسان ووعيه ورغبته في العطاء والإبداع.
ترسم في الخاطر صوراً تعبيريّة لوحشة الغربة ومأساتها، يغلب فيها الشعور بالانتصار على وجع الذاكرة، وتتكسّر معها أيدي الضجر والهذيان، وتختنق رياح الدهشة والانبهار. وأبداً على شفتيك وفي قلبك موضوع كفاح أسطوري وقصيدة يترجمها النضال بالتفاؤل والابتكار.
كم مرّة، من الطريق، صرخت: يا ختيار.. وفي قرارة نفسك تدرك أن الشمس تختير، وهذا الختيار يتجدّد شبابه كلّ يوم.
ثـمّ لا أذكر، منذ وقت طويل، أنني سمعتك تتأفّف، أو تتذمّر، أو تتشاءم، بل غالباً ما رأيتك تقابل الجحود والتجريح وتحامل الهوى والغرض، بنكران الذات حيناً، وبالانفتاح والتسامح والتسامي أحياناً، رغبة منك في تحاشي الخلاف، وفي شدّ أواصر الإلفة والتفاهم والاحترام في قيامة أدب حيّ واعد، فيكون العمل، جماعياً، أجدى وأرقى وأطيب ثـماراً.
كنت فقط تخاف على الذين ينتابهم شيء من الإحباط، أو يصيبهم اليأس، وتشفق على من يلازمهم شعور بالضعف أو بالصعلكة، فتفتح جناحيك، تطيّب خاطرهم، وتحوّل القلق إلى طمأنينة، والضعة إلى عملقة.
مفاجآتك، يا شربل، كانت أبداً ودائماً ملء القلب والعين، تبعث على الانشراح، وتستشرف في النفس طابعاً من الصدق والأمانة والوفاء، يتفوّق على كلّ ما يطبع الإنسان أو يحيط به من ضبابيّة وظلال. تندمج كليّاً بما تؤمن، وبما تأمل، وبما تطمح إليه، فيلازمك اهتمام بآلية التنفيذ لتصير ترجمة الحلم على أنقى وأكمل وجه. وكأني بك، وأنت تصطدم بالمشكلات والعقبات والتحديّات، تكرّس غليان النفس لما هو أفضل وأكمل وأبقى في خدمة المجتمع.
أما أن تأخذ قصيدة (بحيرة الضوء)، "لتصوّرها وتحتفظ بنسخة منها بخطّ يدي"، وتعود بها إليّ بعد أسبوع، منشورة على نفقتك الخاصّة في كتيّب أنيق الطباعة، بديع الإخراج، فهذا منتهى المفاجآت.
كنت أفهمك خبيراً في التصوّر والتصوير، سريعاً في التخيّل، بديهي الخيال، قابلاً للإيحاء، غزيراً بإمكاناته، ووافراً في الإنتاج. فإذا بي أجدك تفكّر ناراً، وتكتب ناراً، وتخرج ناراً في مجال خدمة الأدب، ليبقى وهجه مستمراً في أجيالنا الحاضرة، وفي الأجيال التي لـم تولد بعد، تقدح لها من عقلك، ومن شرايينك، لهباً دائـم الحياة. شكراً.. ولك محبّتي.
البيرق ـ العدد 283 ـ 18 كانون الأول 1990
**
رسالة
عزيزي شربل:
صديقي أنت.. ارتضيت ذلك أم بعته للشيطان. انقطع عنّي أسبوعاً، شهراً، سنة أو ما يزيد، فلن يقلّل ذلك من محبّتي لك. خصوصياتك أحترمها، وأترك لها المدى الأوسع، فهي بلا شكّ مرتبطة بالفجر، وإلى الفجر ستعود.
بعد مخابرة هاتفيّة من صديق مشترك، وبعد تلميح بسيط من صديق آخر لنا، مشترك أيضاً، استطعت أن أضع إصبعي على الجرح، جرح اصطنعته أنت وليس لي فيه منّة.
أنا ملزم أدبياً في التصدّي إلى تجّار الهيكل، إلى الذين ينتحلون الشعر والأدب، ليكونوا عالة على الشعر والشعراء، والأدب والأدباء.
أسألك صراحة: كيف أجزت لنفسك أن تصطفّ ـ نعم أنت ـ في طابور تعلن عليه الحرب؟ متى يا صاحبي تفهم، تفهم أنني حين أتوجّه إليك أذكرك بالاسم، بلا مداورة؟.. لأنه، بالنسبة لي، لا يعني تقليلاً أو إعلاءً من شأنك، فنحن، كلانا، في خندق واحد، في الدرب إلى مجد الكلمة، إلى الحفاظ على شرفها وقدسيّتها.
كفى ولدنة، كفى أن تنسب إلى نفسك التباساً ليس فيك. صديقك وسأبقى..
سيدني في 7 تشرين الثاني 1988
**
معزوفة حب شربل بعيني
“إلى صديقي نعيم، أهدي (معزوفة حبّي) التي ضجر من سماعها صباح كلّ يوم سبت”.
هكذا أطلّ عليّ الصديق شربل بعيني هذا الأسبوع بمولوده الجديد، وهو كناية عن مجموعة شعريّة أنيقة الطباعة والإخراج. وعلى الرغم من أنه طالعني بتهمة التعب، باطلاً، فقد خلوت إلى نفسي، وعكفت على قراءتها، يقيناً منّي أن قراءة الشعر واستشراف أبعاده، قد تختلف، نسبياً، عن سماعه واستيعاب أصدائه.
وإذا في يدي لهيب مخملي تقطفه العين من ملامح عالـم ممزّق الإطار، طلعت منه أعمدة تعانق السماء، تعمّدت هي والشعر بميرون الحبّ، فكانت الخلاصة شربل في معزوفته.
في هذه المعزوفة تخلع حقيقة شربل كلّ الأقنعة، وكلّ الوجوه المستعارة، ليبدو وجهه الأصيل ببساطة كليّة، وعفويّة صادقة، تعبّر عن خلفيّة أخلاقيّة متميزة بالصفاء، ترفض الهرب من الإضاعة الدائمة للذات، وتواجه التوتر الحاد للزمن الذي يرتهن الإنسان، فتحول الذات إلى بركان، وتحرّر الرهينة من الأغلال.
وهكذا بدا لي شربل:
وجهاً يطوف خارج الأرصفة ضد الريح، على أجنحة للشعر لا تزال قادرة على التحليق.
وقلباً يشرق خارج الزمان، في خفقاته التماع الأـم الزاخر بالإيمان، يدحرج الليل عن الأرض، ويتجاوز الموت ليكون له حضور الأسطورة.
وفكراً يغني خارج التجربة، بأحلى ما تكون أغاني القلق والضوء والحريق الساكن في النفس سؤالاً أبديّاً، في محاولة لخلق عالـم إنساني جديد.
ولوناً يتحرّك خارج المكان، يرشق الكون بالأمل واليقين والمحبّة، ليصبح فيه شيئاً مستمراً دائم الحياة والانسجام والخلق.
وأنيناً يتصاعد من الأرض ومن الروح، يتطلّع إلى التحوّل، وفي ارتفاف الرؤيا، يعانق الدنيا فيختصر الأبعاد.
إذا أزال القافية نبض في الكلمة شعاع جديد حي، وإذا أطفأ التفعيلة توهّج في الشعر نغم يعكس الإحساس في خفقة موسيقيّة لا تنفصل عن الفكرة، ولا تعرف الابتذال. فإذا الصوت انسجام لوحدة وفنيّة القصيدة، وإذا الصدى إيقاع يغني المشكلة الفكريّة بالتجارب الشعريّة:
الشعر عندي.. وْيِسْمحوا النقّادْ
أهداف تتفاعلْ بلا تفعيلْ
...
وشفاف تكتب ع الهوا مواعيد
وأحباب تحت جوانحو تلتمّ
وما اصطلحوا على تسميته موسيقى داخلية تبعث على الإنسجام مع الإيقاع الخارجي، أسمّيه أنا في (معزوفة حب) وهجاً في أرض القصيدة، يسابقك في الصورة إلى ملامسة الكلمة، ويشدّك في المعنى إلى عمق التجربة:
كنتي اللّقا لمّا الشّراع يميلْ
صرتي السّفر وبحورِك الغربِه
وصارت شْفافِك تنزف مْواويلْ
وتتجمّع مواويلها بقلبي
كثيراً ما سمعت شربل يقلق ويغتاظ من تصرّفات الحبيبة، فينقم عليها، إلاّ أن نقمته لا تدوم، ويدعوها هو نفسه إلى السير في هواياتها:
قومي ارقصي وتدلّعي عليهُنْ
برقصاتِك الحلوينْ
لْيالي الفرح ربيِت عَ إيديهُنْ
وإيديهُنْ بْساتين
وغبرة رقص علقِت بِإجريهُنْ
ومعتّقَه من سنينْ
ثـم لا يلبث أن يحار من تلاعبها، ومن هجرها، فيصرخ:
كيف فيكي عايشِه بدوني
وضحكتِك لبعيد مسموعَه
نسيتي السّهر ع مرفأ عْيوني
مطرَح ما كان صْباحنا يُوعَى
إلاّ أنه يأبى أن يفتضح أمره:
والمطعم الـ ما راح من بالي
ع كتر ما رندح أسامينا
ما عدت زورو.. خفت يحلالي
قلّو الحقيقَه وبغّضُو فينا
وفاء شربل، طيبة قلبه، صفاؤه وإخلاصه في حبّه، اللهب الإنساني الذي تتموّن منه نفسيته، يتفجّر:
يا عمري.. عمري من دونِكْ
ضايع فوق دْروب دْروبْ
مصلوبْ.. وصرخات عْيونِك
ما بْتَعرف إنّي مصلُوبْ
..
وْشو همّني
بِقْشُر جلد جسمي
وبغزلو شرشف ع لون العتم
وبشلحو عليكي
..
تْركيني بشعرِك إتدرّى
إتحبّى من ريح ظنوني
إتكي عَ كتفِكْ
إتقلّد
هاك النجمات الغنّوجِه
المتكيّه عَ كْتاف جْبالي
بعد هذه الرحلة الطويلة، رغم القلق والاضطراب، رغم الأشواك والجراح، رغم العتمات التي تراكضت في طريقه، يختصر شربل بعيني شخصيّته في قمّة إنسانيّة آمن بها:
نحنا بْداية هـ الدني
ونحنا النّهايِه
وكأنه يقول: ما قيمة الدنيا بدون الإنسان، وما قيمة الإنسان بدون الحبّ. وإذا لـم يكن بدّ في كل عمل متكامل، من سقطة فكرية، فقد استوقفتني طويلاً هذه السقطة في قصيدة: (بدّي بوسِك):
في هذه القصيدة يزوّر الشاعر نفسه، يتنكّر لقيمه الإنسانيّة ومسلكيّته، إنها قصيدة مراهقة، لا تعرف الحبّ، وتستعبدها حيوانيّة فحولة الشهوة، فلا تجد لها مخرجاً إلاّ في الغرائزيّة التي تلتذّ بترك بصماتها على مظاهر الكون. أنا أعتبرها نتيجة صدمة عاطفيّة، بل أرى فيها (موضة من الموض) التي تتحلى بها صرعات العصر.
وهذه التقليعة التي تنتف ريش الطهارة، وتمزّق بمخالبها ضياء العصافير، كنت أتمنى لشربل أن يتبرّأ منها ويئدها قبل أن تولد، ليبقى صوته صوت السيف الذي:
يبقى بهالدني مسموع
ولا تبقى حبيبته:
يا الـ إنتي حكاية أوطاني
وسفر الأوجاع الـ خلّتني
إكره حالي.
فتطلّ علينا، كلما اشتقنا إلى الضوء والدفء والجمال، (معزوفة حب) لا يغني فيها شربل وحده، بل يغنّي معه قلب الإنسان، وقلب العالـم، وقلب اللـه.
صدى لبنان ـ العدد 672 ـ 14 تشرين الثاني 1989
**
شربل بعيني في "إلهي جديد عليكم"
يخرج على المألوف ويتمرّد على الرتابة
شربل بعيني شاعر، والحديث عن الشاعر هو قول في الشعر، والشعر هو الحياة في المعاناة والتحدّي والخلق والإبداع. إنه لا يسعى إلى ترميم الجسور لمواصلة السير وربط المركبّات، بعضها بالبغض الآخر، فيكمل مهمة المخلوق، إنما يزيد في ضرب وتهديم الجسور المتصدّعة، ليبني جسوراً جديدة تتقاطر عليها الأزمنة بعد أن يغنيها بالألق، ويزوّدها باللهب الإنساني، فيقوم برسالة الخالق.
وإذا كان صحيحاً أن الشعر موهبة تزداد نضوجاً وعطاء وتوهّجاً في التجربة والممارسة الأمنيّة، فالأصحّ أن الألـم والمرارة هما أغنى خصائص هذه الموهبة وأكثرها انغرازاً في الأعماق وتوجهاً إلى الأبعاد التي لـم يصل إليها بال.
لتكن القصيدة ما تكون، فأوجاع المخاض التي تسبق ظهورها لا يوازيها إلاّ الفرح الداخلي الذي يتولّد بعدها، فيحسّ الشاعر أن حروفه قطرات ندى ترشها يد خفيّة على لهيب جراحه، ويشعر بلذّة غريبة تتخمّر هنيهات مرهفة، وتمتشق من ضلوعه سيفاً من نار يسلّمه إلى فارس مجهول. هذا الفارس المجهول هو التاريخ، والتاريخ وحده ينصف الشاعر بقدر ما يشترك ويساهم في صناعته.
في "إلهي جديد عليكم"، شربل شاعر من هذا الطراز، لا يتعكّز على المرايا والقناديل، ولا يغتسل بالدمع والعرق، أو يشرب ماويّة الليل ليدخل صباح الشعر فيفرح بعالمه. إنه يفهم الشعر نوراً يسحق عتمة، ويعرف أن رسالة الشعراء لا تتعمّد إلاّ باللهيب.
وإذا كنت لا أقتطع فأذكر شيئاً خاصاً من "إلهي جديد عليم"، فذلك لأن كل شيء فيه يستحقّ الذكر فيطول الحديث، ولأني أترك للقارىء حريّة أن يكتشف مكنونات النفس في شعر شربل بعيني. إن النشوة التي تساور الإنسان في اكتشاف الكنز تفوق النشوة التي تراوده في كيفيّة تصريفه.
أما إذا أردنا أن ندخل في عمليّة معادلة في شعر شربل بعيني، فإنه يتأتّى علينا أن نتجاوز أمرين: وحدة القصيدة والوزن، لأن هم شربل أن يصل إلى المعنى، وأن يصل معه القارىء إلى الغاية، ولذلك تتشقّع عنده الكلمات تلقائياً، وتتطاير أجنحتها بصورة عفويّة، فتضرب الريح لتغالب العاصفة. وإذا سعى إلى تهذيبها وضبطها فإنها تحتك وتتوتّر وتتمزّق فتنزل بجوها في كل صوب، ثـم أليس هو القائل:
قالوا: انتبه في بحور في أوزان
منشان يبقى الشعر بقصورو
قلتلّهن: شعري أنا إيمان
وسع المحيط البالع بحورو
هل نذكّر شربل أن المحيط لا يبتلع البحار بل يبصقها إلى الأطراف المترامية لتغازل الرمل والحصى.. والفراغ. ولذلك لا نجد بحراً في وسط المحيط أو في عمقه، وإنما في الجوانب التي تتدلّل على السماء والأرض.
فيما عدا ذلك، فإن لغته سهلة ممتعة ونقيّة واضحة، ألغازها رموز ثورة نفسيّة، تغلغل في المشاعر، وتداعب العقل، فتخلق بينهما مناخاً من الإلفة والفرح، وتحقّق في الوجدان نشوة الحلم المتمرّد.
هذا الشعر وهذه اللغة، هما خروج على المألوف، وتمرّد على الرتابة، وثورة على الجمود. هما زخّ جديد تتعجّق فيه الأضواء والرياح وألسنة اللهيب، فيأتي الحرف معجوناً بالانصهار، وتصير القصيدة شلاّل حياة تسبّح باسم الرب إلهاً جديداً.
فإذا قرأنا شربل بعيني توجّب علينا أن نقرأ اليرى واللايرى، وأن نتحسس همسات جفوننا، ورفّات خواطرنا، وخلجات قلوبنا، قبل أن تمتدّ إليها يد هذا الإنسان، وتسرق منّا شيئاً، فتردّنا إلى القبل والبعد في محاولة يائسة لاستعادة المسروق.
صدى لبنان ـ العدد 533 ـ 17 شباط 1987
**
رسالة
عزيزي شربل..
يا رفيق الكلمة، تحيّة عاطرة..
بعد ظهر أمس تلقّيت الكتاب الّذي أرسلته لي مع إحدى تلميذاتك. أشكر لك هذا التقدير وهذا الاهتمام. وإذا كانت شهادة الصديق في محلّها، فإن شهادة الوفيّ أكثر وفاء ممّا تختزنه المشاعر، أو تصوّره الكلمات. وإذا كنت من الشاكرين لأن في هذه الجالية مَن يكتب، فإنّي أكثر شكوراً لأن في هذه الجالية نفسها مَن يقرأ ويفهم، فيفرح أو يتشكّى.
الكلمة عندي يا شربل نافذتي على الحياة، وهي اللهب الطالع من الوجدان حرفاً بركانيّاً يقيم الوجود، ويبطل العدم. وكل قول لا يستصرخ المثاليّة في الإنسان هو كميّة ظرفيّة تتلبّس الفراغ لتزيد الباطل تفشياً في الأرض، وتعطي الغيبيّة الوهميّة مساحة في النفس لا تستحقّها.
هذه الكلمة مسؤولة عن رسالة الفكر، تتوهّج من غير أن تتوتّر، وتنفتح من دون أن تتعهّر أو تستبيح، لا تخبط في عتمة الدهاليز، بل تستشرف قباب العالـم وقناطر التاريخ، لأنها تلتزم بالشأن المصيري للرسالات الخالدة. إذا انتظمت فعلى قاعدة المعرفة، وإذا أشعّت فعلى حسّ في النفس ينبض بالديمومة، ويتألّق في مطارح الشمس.
مصيبتنا يا شربل ليست في الكلمة، مظهراً وبطانيّة، متموّجة كسحر الألوهة، أو هادرة كالإعصار. مصيبتنا في أولئك الذين يسيئون إلى الكلمة، جهلاً أم عمداً، تصوّراً أم ممارسة، في أولئك الذين إذا أمسكوا بها صار سيف النّار عموداً من ملح، وصارت لوحة الحياة الرائعة فسيفساء كاذبة في إطار من كرتون. إنهم ليسوا عالة فقط، أو متطفلين على النهضة الأدبيّة، إنهم خنجر في خاصرة، وفقاقيع صابون في عافيتها وفي مناخها. نحن لا نستوطي لنا حيطاً، ولا ننكر، على إمكانيّة في كوادرها الطبيعيّة، محاولاتها الخيّرة، نحن نسعى إلى التنشيط والتركيز والمصالحة مع الذات، لئلاّ ننقل الكفر إلى أجيال طالعة لا تستأهل فعل الكفر والكفرة.
يقولون لنا "جماعة الشعر". ما أضلّ هذا القول يا شربل. الشعر لا يقتصر على جماعة، ولا يخصّ فئة معيّنة من الناس. الشعر ملك العالـم، ملك الامتلاء الكوني الذي لا يعرف الانكفاء، ولا يكتفي بحدود يرسمها له الحكم العرفي، أو يتوقّف عند حدود جامدة تقولب المواهب بدل أن تتميّزها وتطلقها طليعيّة في الرحاب، تزرع الحق والخير والجمال، وتموّن بالعافية رموز البقاء والخلود. فلماذا نخصّص للشعر والشعراء زاوية من الأرض نحصر فيها، فلا يطاول الأبعاد المترامية، أو نقزّم الشعراء على قياسها، لتيبس فيهم الماويّة فيجاوروا القبر؟.
هذا النوع من "جماعة الشعر"، أو شعر الجماعة يفتّش لنفسه عن تابوت، فتضيق عنده المجالات، وينطفىء ضوء سنابله على البيادر المزيّفة. فليحلم غيرنا بالمدارس والمناحي والاتجاهات والألوان والأشكال، وليقيموا للفكر مصانع أو صالونات أو منابر. لهذا الغير نقول: إن الشعر ملء النفس، ومن تمتلىء نفسه فله كل الكون، ولا يرضى بفتات الفكر ساقطاً عن موائد الانتحال والطلاسـم. فهل بعد ذلك تريد أن تسأل "إذا كنت مقتنعاً بما جاء في تلك المقالة؟. لك أطيب تمنيّاتي.
سيدني في 28 تشرين الأول 1986
**
قرأت لك
التقيت شربل بعيني مرتين، الأولى في دار الثقافة للطباعة والنشر، وكان لقاء سريعاً يصحّ فيه القول: وكان سلامي عليه وداعاً.
وأما في الثانية، فكان لقاء مطوّلاً في "الغربة الطويلة"، فيه كثير من الفرح الداخلي، لأنه انطوى على كثير من التأملات، تصوّرها نفسيّة شاعر مرهف الحسّ، صادق الأداء، وتطلقها إلى المدى البعيد أهازيج فيها مزيج من الحب، والأمل، والحيرة، والتوتر، والغرور، والعاطفة، والفجوجيّة، والنعومة، والقسوة، والميوعة، والسخط، والألـم، والمزاجيّة، تكتمل فيه مدارج النفس لتبلغ شأواً من مرامي الطموح الإنساني.
فإذا كان الشعر خطيئة، فإن شربل بعيني مدروز بالخطايا من قمّة رأسه إلى أخامص قدميه، وحتى آخر نقطة من دمه، وأترك لغيري أن يقول إذا كان هذا شرفاً أو عاراً في الشاعر.
ويبدو لي أن جريمة شربل تكمن في أنه لا يعيد ويكرّر قراءة ما يكتب ما فيه الكفاية، بل يرسل قصيدته على سليقتها وبالسرعة التي آتته فيها، وكأنه يخاف عليها أن تهرب من بين يديه، أو أن تلتصق عفويّتها بهويّة أخرى، فلو فعل لكانت هوية القصيدة عمارة قائمة بذاتها، ولما عاودته الصورة عينها في وهلات تلي. وأما التماهي فهو موضوع آخر يتعلّق بالزاوية التي يخرج منها القارىء المطلع برأي حول الشعر وأبعاده، وما ترمي إليه هذه الأبعاد في إغناء التراث الإنساني، وتلبية مضامين قيم الحياة الراقية.
يقولون "الشعر موهبة"، ويقف النّاس عند هذا التعريف مكتوفي الأيدي، وكأن الانبهار قد أخذ منهم كلّ مأخذ. أنا لا أقر هذا التعريف، وأعتبره منحرفاً وخاطئاً، فيه من التحديد ما يجعل الشعر مقتصراً على عينة واحدة من الناس. أنا أعتبر الشعر من خصائص النفس، كل نفس، لا من مواهبها. إنه حاجة نفسيّة تختصّ بكل ذات حيّة، ولا يأتي دور الموهبة إلاّ في القدرة على صقل هذه الحاجة، وفي التعبير عن هذه الخصائص. والمواجهة الشعرية تأتي وتتمّ في عملية ترجمة هذه الخصائص خيالاً وفناً، إلهاماً وفكراً وصوراً يتعشّقها الحسّ، وتتذوّقها النفس، وفيها يكتنز العطاء ويتميّز ويسلك ميادين شتّى، وفي هذه الميدنة تتنوّع وتتكاثر التسميات: من القديم إلى الحديث، فالمطلق والملتزم، والفصيح والعامي، وهلمّ جرّاً.
ومن هذه النظرة أرى أن شربل بعيني قد عرف خصائص نفسه ، وعرف أيضاً كيف يصقل مواهبه وينمّيها للتعبير عن هذه الخصائص، فجاءت باللغة المحكيّة غنيّة بالصور والمواقف الشعريّة.
وسواء وافقت على بطانيّة الشعر في "الغربة الطويلة" أم أخذت عليها سقطات لا تستحبّ، يكفي شربل بعيني أنه يستوحي الوعي القومي، فيكتب باللهيب وبالدم، فالكتابة بالدموع لا يجيدها إلاّ الأقزام والجبناء، وأما الكتابة باللهيب وبالدم فهي صناعة الأحرار والعمالقة.
مجلّة الوفاق ـ العدد الرابع ـ شباط 1986
**
مرحبا
ألقاها بمناسبة زيارة سعادة سفير لبنان الدكتور لطيف أبو الحسن والسيدة عقيلته لمنزل شربل بعيني:
داعبِ الرّيحَ حولَنا يا مساءُ
ههنا الشّمسُ والظَّلامُ السّواءُ
ولدتْ عندنا النّجومُ وطافتْ
قبل أنْ كانتِ السَّما وكانَ الفضاءُ
سائلِ الدَّهْرَ بيننا من زمانٍ
شهقَ الوعدُ واستجابَ الوفاءُ
واسْألِ الحُلْمَ خلفَ كلّ شُعاعٍ
زغردَ الحبّ واشرأَبَّ الرَّجاءُ
يتسلّى في كفِّنا الغَيْمُ لَمّا
يسرق الصّيفُ لونَهُ والشِّتاءُ
كلّ أحبابنا ربيعٌ مضيءٌ
سكر العطرُ عندهم والهواءُ
مرْحَبا يا سفير، يا طَوْدُ، يا مَجْدُ،
يومَ صارتْ لمجدنا كبرياءُ
مرحبا الأصدقاءُ يومَ تنادوا
وتخلّى عن عصرنا الأصدقاءُ
بعض أمجادنا ابْتَناها رجالٌ
زنَّرَ الوعيُ فكرهم والبَهاءُ
وتُطِلُّ النساءُ نوراً علينا
أيّ مجدٍ ما عمَّرتهُ النِّساءُ
فالشِّفاهُ المطيَّباتُ العذارى
في هواها تبارَكَ الأنبِياءُ
كانَ قَبْلاً نداؤنا عاطفياً
ههوَ اليومَ يا سميرةُ اسْتِثْناءُ
هذه سهرةٌ من العمرِ عندي
وستبقى ما يستمرُّ البقاءُ
كأْسها الحبُّ ، والشِّفاهُ نَبيذٌ
فوقَ عَيْنَيْهِ يَسْتَحِمُّ الضِّياءُ
والعريسُ الحبيبُ مَشْقَةُ شِعرٍ
تَتَزَيَّا بحبِّهِ الأسْماءُ
إنْ تكنْ عندَهُ القصيدةُ زَهْواً
فالحكايا أميرةٌ حسناءُ
كلُّ شِعرٍ لا يعرفُ الحبَّ مسخٌ
وثنِيٌّ يضجُّ فيهِ الغباءُ
والَّذي شِعرُهُ كشَرْبِلَ يَحكي
حبَّ لَيْلَى، تُضيءُ فيهِ السَّماءُ
**
سيوف النّار
ـ1ـ
قبضُ الريحِ
وبعض غبار
ويتلاشى الصّوت
وإذا الصدى يلفّ أبعادَ الأرض
وذاكرة التاريخ في كلّ مطرح للشمس.
لا تلوموا المضى
فالملامة لا تحرق أظافرَ الليل
ولا تضيء دروبَ المستقبل.
الحضور الإنساني الكليّ القيم والمبادىء
يعتق من الخطيئة،
ويحرّر الناس من الذلّ والعبوديّة،
فتقوم مداميك الحضارة،
ويشعّ التراث الوطني.
لقد كان شربل دائـم الحضور،
وله ديمومة الصدى،
وفي ذلك الحضور وهذا الصدى
ارتفع صوت محمد زهير الباشا
في الملاّح الباحث عن إلـه،
فإذا هذا اللقاء،
وإذا الشعر سيوف نار
ـ2ـ
قيلَ لي مرحبا، فقلتُ تُرى
في مرحبا اليوم، ضاع الشعر والأدبُ
غَزلتُ للحبِّ أيّامي.. فذاكَ دمي،
على صباحِ الهوى والحلمِ، ملتهبُ
يلامسُ الضّوءُ عينيها فتخنقُهُ
غريزةُ العتـمِ، والضوضاءُ، والشّغبُ
تعمّدت بالندى الفضيّ أغنية
لهيبُها الجرحُ، والرؤيا لها عصبُ
وزغردتْ في شريط الفجر، ضاحكةً،
أصداؤها الريحُ، والبركانُ، والشّهبُ
يا زارعَ الوجعِ الوثنيّ في عدمي
هل يدركُ الحقدُ كيف الثأرُ والغضبُ؟
وكيف تنهضُ في الدنيا قصائدنا
وخلفها الريحُ، والأقمارُ، والسّحبُ؟
وفوقَها، لا يدٌ خطّتْ، ولا قلَـمٌ
ولا احتوتْها، على غليانِها، الكتُبُ
كأنّها في حدود الشمسِ طالعةٌ
وفي يديها، جمالُ الكونِ ينسكبُ.
قلْ للمرايا على صفحاتها انكسرتْ
صورُ الزمانِ، ورثّ اللونُ والخشبُ
وما تبقّى سوى الإبداعِ، ريشتُهُ،
من الجراح، بنار الشّعرِ، تختضبُ
هذي ملامحُنا، في الأرض مشرقةٌ،
ما عزّها حَسَبٌ، أو غرّها لَقَبُ
تلملـمُ العالَـمَ الأزليَّ، تنسجُهُ،
وهجاً يشعّ به الوجدانُ والهدُبُ
فلا تليقُ بغيرِ الشّعر مملكةٌ
ولا تطيبُ العلى، والمجدُ، والرّتَبُ.
عفواً زهيرُ، فلا أبعادُنا اختنقتْ،
ولا الشّواطىءُ تثنينا، ولا العُبُبُ
روّادُنا، في جفون الشمسِ طلّتُهمْ،
عَنْ مطرَحِ النورِ، ما غابوا ولا تعبُوا
يغامرونَ.. سُعالِ الضّوءِ يعرفُهُمْ
إلاّ المعاناة، ما ذاقوا، وما كسَبُوا
سلِ "السّنابِلَ" عن دنيا "مراهقة"
وعن "إلهٍ" على الشفتين يضطربُ
"وغربة"، طال فيها جوعها أبداً
إذا الضّميرُ، ضميرُ الشّعرِ يغترِبُ
"وللخزانة" في قبساتها دررٌ
يغارُ من ظلّها الياقوتُ والذّهبُ
"مشّي معي"، زمنُ الأوهام قافلةٌ
من اللصوصِ على أحلامنا انقلبوا
"ونقطة الزيت" في أوجاعنا اشتعلتْ
قل "للمجانين" نحن العقلُ فارتعبُوا
إنّي إخالك في الدنيا أخا سفرٍ
جناحُكَ النارُ، والطوفانُ يصطخبُ
وفي سطوعِك للأحرارِ ملحمةٌ
على مداها استوتْ أمجادُها الحِقَبُ
وفي جراحِكَ أضواءٌ مشرّعةٌ
هل يسمعُ الشّرقُ، أم هل يُبْصِرُ العرَبُ؟
غداً نعودُ إلى دنيا طفولتنا
فيرقُصُ الجدولُ الغافي وينتحبُ
ويسكرُ الدّربُ في خطواتنا جذَلاً
وبالورودِ يضجّ السّفحُ والهُضُبُ
ويُشْرِقُ الفِكْرُ، رغمَ السّيفِ، مبتهجاً
فيُولدُ الفرحُ الأبديُّ والطّربُ
كأنه في دروبِ الغيمِ مشتعلٌ
على الزمانِ، وتهوي تحته الحُجُبُ
وللصباحِ رفيفٌ في خواطرهِ،
يمزّقُ الليلَ، في عمري، فينسحبُ
على رماح الفدى تغلي مشاعلُنا،
وفي الأعالي سيوفُ النّار تنتصبُ
فتلتقي ذكرياتُ المجدِ في وطنٍ
أقوى من الموتِ.. ماتَ الموتُ فالتهببوا.
يوم محمد زهير الباشا ـ 1989
**
مشوار مع شربل بعيني
ـ1ـ
على بيادر الرؤيا يتفتّح ضوء السنابل
يرسم على شفاه الصباح أسطورة الخلق
ولأجيال لـم تولد بعد تتناقلها زقزقة الرياح
في جراح العزّ يتوالد العمالقة
وفي عبقها تتناسل ملاحم العباقرة
لهب الألوهة يرتشف فعل الإيمان
يتخمّر، وينمو، فتزدهي تباشير الخلاص
تطارد المجوس والصيارفة وتجّار الهيكل
من عرق الندامة يتحرّر خبز الإنسان
وعلى لوثة العار ينتفض مدّ الحضارة
حدّ السكين يحزّ الأعناق
وفي شلال الدم ينتهي القتلة
وتجدد الأسطورة فوق فوهة العدم.
وإلى الشرف القومي تتسلّل الوشاية
أخطبوطاً حلزوني الصدى
يتثاءب، يتمطّى، ينتشر، يأكل بعضه بعضاً
وتتعالى مع العاصفة ألسنة النار.
ـ2ـ
خلف القضبان الحديديّة تتكوّم مخلّفات القهر
يسرق منها الحقد عافية البهجة
وببقاياها تتسلّى أحناك الزمن الرديء
تتساقط مواسم الفرح في مأتـم الحرف
وتصير الرموز ترابيّة الوجع والتحدّي
تعجن رمادها والأنين يتخفّى في المحاجر
ترفض الدموع لأنها ترفض العار
ولأنها في ضمير البركان ترفض أن تغتسل بالدخان
وفيما تبحث عن الحياة يسبقها الموت في طريق الجلجلة
يتوهّج الحب في خندق الفداء، وتتميّز الأصالة.
اقتلوا الجريمة قبل أن تتفننوا في قتل المجرمين
وقبل أن تنصبوا أعواد المشانق ارفعوا منائر التاريخ
اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم
أعطوني قلماً أعطكم جيلاً يعانق السماء
وفي الأبعاد المجنّحة يشيّد عمارة الحضارة
وأعطوني عصاً أجعل لكم الوطن سجناً
يضجّ بالبرابرة والمجانين
وأعطوني رصاصة تَصِر النعمة نقمةً تدمّر الإنسان
تقتل فيه القيم والمُثُل وأحلام الحريّة والحياة.
ـ3ـ
على مزارب الخطيئة اكتبوا عنوانكم
وبأعقاب السجائر عمّروا ناطحات السحاب
فتكرج ضحكة القهر على شفاه التنين
أقلام الحريّة لا تكتب صكوك العبوديّة
والجوع النفسيّ لا تكفيه شرائح اللحم.
لا تصلبوا عيونكم على تقاطع الرياح
لأن عربدة الجنون تلتهب منها الدروب
يتقزّز معها الصبر الأسطوري
وتنطفىء مشاعل الرجاء.
من يختلس فلس الأرملة إنما يأكل جسد اللـه
تهرب من شفتيه أحلام الحب والقيامة
ويترمّد الوعد الآتي من فرع الحياة.
بعامل الثقة تصير أوراق الإزدرخت أجنحة نسور
تصفّق لها قباب الدنيا وقناطر التاريخ.
تتحدّى الواصف، وتحضن الآفاق
فترقص تحتها أوتار الأرض
ويطرب فيها رباب السماء.
تذكّروا أن اللـه لا يطلب أوسمةً
إنه الوسام الحقّ
لا تقتلوا اللـه فيكم، أبقوه حيّاً
ولو لمجرّد الأمل.
ـ4ـ
تعالوا نتحسّس جراحنا والمسامير
وبعبق الدم نغزل أسطورة العزّ
نستشرف آلامنا والمدى والمصير
ونحبك بخيوط الضوء منديل العودة.
أيّتها الأرض المحروقة
يا أرض الأحزان والمآسي والدماء
يا موعد أحلامنا والأمل والرجاء
ليلك طويل رهيب وحادّ كحوافر العفاريت
بالحبّ والتضحيّة والانفتاح والفداء
سنزرع في ترابك البخور
ونحرّره من الويل والبؤس والشقاء
نغمر أمنياتك برموش العيون
وبالحنان نغسل تعاستك الخياليّة
أنت التي تدفعين ضريبة النار والحديد
عن مائة مليون
رذلهم التاريخ ورافقتهم لعنة الأجيال.
البيرق ـ العدد 18 ـ 28/11/1986
**
أيقونة أدب
مجنون الْـ نَطَرْنِي وْقالْ: لازِمْ عَرّفَكْ
إنْت الشِّعرْ مِنْ سَطْوِتَكْ آخِدْ لَقَبْ
لا تْقُولْ إِنُّو اللَّقَبْ بَدُّو يْشَرّفَكْ
بِالنَّارْ أَوْ بِالدَّمّ لَو كَانْ انْكَتَبْ
مَسْمُوحْ أَوْ مَمْنُوعْ إِنِّي صَرّفَكْ
إِسْمَكْ يَا شَرْبِلْ صَارْ أَيْقُونِةْ أَدَبْ
1989
**
النمر الأسود
ألقاها عام 1990 في منزل شربل بعيني بحضور السفير لطيف أبو الحسن والمطران يوسف مرعي.
ـ1ـ
غَرِّدْ.. كَفَاكَ تَمزّقاً وتحسّرا
إِنّي أُحبّك أن تثورَ وتكفُرا
وانهضْ ففي غَليانِ فكرِكَ لوعةٌ
تشتاقُ أن تدوي وأن تتفجّرا
مرَّ الصبّاحُ وفي جفونِكَ نشوةٌ
وشَّى جوانحَها السّحابُ وزنَّرا
وأنا أراكَ على ضميرِ قصيدتي
لَهَباً وبُركاناً وفجراً أَخضَرَا
يا ضحكَة الحلم المشعّ إذا استوى
وإذا طغا، وإذا اشتكى وتضجّرا
حتّامَ صمتك والجراحُ مشاعلٌ
تأبى الكرامة أن تُذَلَّ وتُزدرَى؟
وعلى أكفّك للنضالِ حكايةٌ
نقشَ الفداءُ فصولَها وتصَوَّرا
يا شعلةَ الحلمِ المضيء حضارة
فجِّرْ دمَ الشعراءِ ضوءاً أحمرا
واكتبْ على نبضِ الترابِ ربيعه
فترى الربيع على الحروف اخضَوْضَرا
فإذا سكتَّ ففي السكوتِ حلاوةٌ
وإذا حكيت فللشذا أن يسكرا
إنّي عرفتك نجمة بظلالها
ما كان أحلى أن نطوفَ ونعبرا
فكأنّها صلوات حسّ مشرقٍ
غسلتْ نقاوتُه الزمانَ فنوَّرا
ولقد سألتُكَ أن تنيرَ دروبَنا
وعلى ندى الأحلامِ أن تتخطَّرا
لتقومَ في وجع الحجارةِ يقظةٌ
تُحيي وتلهمُ ما تدمَّرَ واهترى
قد حان أن نبني انطلاقةَ نهضةٍ
ونردُّ قيداً باطلاً مستهترا
فإلامَ يسحقنا ويطفيء وهجَنا
زمنٌ أصمٌّ.. لا يحسّ ولا يَرى؟
ملأى سنابلُنا وغنجُ كرومنا
مطرٌ يفيض على الجوارحِ عنبرا
ينصبّ في قنواتنا وهمومنا
أدباً وشعراً مبدعاً متحرِّرا
كالشمسِ تنسجُ من دلالِ جفونها
دفئاً تغلغلَ في النسيمِ وعطَّرا
ـ2ـ
كانت لنا دنيا وكان لغيرِنا
بطر على الدنيا استبدَّ بكَنْبِرَا
فيها امتشقنا الشعرَ ومضاً راعشاً
وهُمُ استباحوا في الرسالةِ متجرا
فكأنما وطن النجوم ضريبة
بالفكرِ ندمغُها انتقاصاً وافْتِرَا
وأتيت منسرح الخيالِ تهزُّنا
متسامياً، متواضعاً، مُسْتَبْشِرا
وإذا احتضنتَ مواهباً ومناقباً
ومنائر الوطنِ المشعَّة جوهرا
غدَت السّفارةُ بيتَ كل مواطنٍ
وغدا السّفير لكلّ مجدٍ منبرا
وبدتْ على الأفقِ البعيدِ سنيّة
رؤيا تعّهدها النبوغ وعمَّرا
مَنْ كان يعطي من عصارةِ قلبِهِ
كانَ الأبَرَّ.. وكان فينا الأكبرا
يغزو مواسمَنا الفراغُ ويحتفي
فَعَلامَ عن جهلٍ نلومُ البيدرا؟
ليستْ معاركنا سوى أكذوبةٍ
ركبَ الغرورُ متونَها وتجذَّرا
فالشعرُ مدرسةُ الجمالِ ووحده
يختارُ منحىً للأداء ومصدرا
تتألقُ النّجْوى على لمعاتِهِ
تنسابُ فيهِ تدفّقاً وتَوَتُّرَا
فإذا الهياكل صيفُها وشتاؤها
حلم على حلم تطوَّر وانبَرَى
هل نُنصِفُ الأدبَ الحديثَ إذا كبا
حدس وراوحَ في الهوى وتعثَّرَا؟
تمضي هواجسنا وكلّ ظلالنا
وضلالُ ما تركتْ يسيرُ القَهْقَرى
ويظلّ ناقوسُ الصبّاح مضوِّياً
ليضجَّ فيهِ جديدُه ويغيّرا
ومع الأماسي كالأريجِ يرشّنا
عبقاً يهزهزُ ما انطفى وتخدَّرا
ما همّنا انتفض الخيالُ بشعرنا
حرّاً مقفّى تارةً ومُدَوَّرا
ألمجدُ أن تُرْضِي ضميرَك والعُلى
وتُضيءُ في الإنسانِ بالاً خيِّرَا
أكتبْ على ورقِ المساءِ رياحنا
حتّى إذا انقشعَ الدّجى وتكسَّرا
بقِيَتْ رياحُ الأبجديّةِ للهُدَى
أملاً يوَشِّحُ بالضّياءِ الأَعْصُرَا
ويُطِلُّ وجهُك يا "لطيف" منارةً
سحقَتْ بوهجِ الوعدِ ليلاً أغبَرا
ومحَتْ على دربِ الغيومِ خرافةً
زرعَتْ جنوناً طاغياً ومُدمِّرَا
كي تمطرَ الدنيا على خلجاتنا
لهباً تبنَّى العُنفوانَ وفجَّرَا!!
ـ3ـ
يا سيّد اللاهوتِ عفوَكَ إنْ أَكُنْ
في الشِّعْرِ أُعْطِي ما لِقَيْصَرَ قيصَرَا
أوْ كانَ من قبسِ انفتاحِكَ قد سرى
مثلَ البخورِ تضوّعاً وتَجَمّرا
فتفُوحُ من عبقِ الحروفِ بحيرَةٌ
فتحَ الصّباحُ شطوطَها وتخضَّرا
أوْ كنتُ من لحمي الذبيحِ ومن دمي
أسقي وأولِم كلّ ليلٍ خنجَرا
أو كان "شربل" قد أثارَ مشاعري
كي تسترقَّ وتستفيضَ وتخطُرا
فإذا السّنى الأزليّ يشرب من دمي
ويمدّ جسراً بالضلوعِ مُسَوّرا
ويقولُ في فرحِ التراثِ مزغرِداً:
يا شاعراً يشتاقُ أن يتطَوَّرَا
أنفُضْ عن الزَّمَنِ الخَجُولِ غُبارَهُ
وامسحْ صدى التاريخ يهدُرُ منذِرا
مَنْ كان يغرقُ في سعالِ دُخانِه
هيهات أن يسمو وأن يتحرَّرَا!!
صوت المغترب، العدد 1077، 3/5/1990
**