شربل بعيني قلم مبدع في المهجر.. شعره دعوة مستمرة لبقاء الوطن/ د. عصام حداد

شاعر وأديب لبناني كبير

حلاوات المربد في بغداد أنه يجمعنا بالعديد من شعراء الأرض، من كل الملل وكل اللغات. وحلاوة المربد هذا العام كانت تعرّفي بشربل بعيني، وهو شاعر لبناني يعيش في أستراليا من نحو ربع قرن.
شربل سريع الإندماج بالناس، ولعلّه أكثر الشعراء المربديين الذين كسبوا حبّ أكبر عدد ممكن من الوافدين على عاصمة الرشيد.. وذلك لأنه جذاب خلوق ذو ثقة فائضة في النفس، حتّى ليؤمن "بطريقة" خطّها لنفسه في التعامل مع الشعر، على أنها "دستور"، ويريدك أن تحذو حذوه في اقتفائها بلا مماحكة ولا جدال.
يؤمن مثلاً في "التعبير" كيفما جاء، ممزوجاً بالفصحى أم بالعاميّة، في أبيات على بحور عدّة كما القصيدة الواحدة. شرط أن يؤدي المعنى الذي يريد. وهو يأنف أن ينقّح شعره، فإنه يرسله بعفويّة وبساطة وحرارة ودفق، ولكنّك تحبّه لطيبته المتماديّة وإنسانيته ووطنيّته وتغتفر له خطاياه.
أهدى إليّ الكثير من كتبه، وقد أربت على العشرين.. يحب أن ينشر، شرط أن يصل فكره إلى الناس. وها أنا أتداول كتابه "الغربة الطويلة"، وقد أصابني بغربته، مشاعره، وحبه لوطنه، وثورته البانية، ولهفته في الحب الإنساني، وقد تلاقينا في هذا التعاطف، ولا سيما في آونة يتفتت بها الوطن.
صحيح أن:
العمر ابتلى..
ومن عرق صلاواتنا شرب كتاب الصلا..
لكن البيت الذي ربيت فيه يا شربل، وعمرت مداميكه، وغزلت ساحاته برجليك، لم ينسك. وإن كان "سبب" ما أبعدك عن وطنك، فقد دفعت ثمن الغربة.
هذه الخطرات، وهذا التوثّب البركاني الذي عندك، ففجّر منك هذه الأبيات، وكنت في الغربة التي لا نريد أن تكون طويلة، كنت وما تزال "البوصلة" التي تستقطب الأوفياء للبنان، فتبنون كلكم لبنانكم الآخر خلف الرياح الهوج، على أعظم قاعدة، وهي الوطنية الحقة، فكراً وتضحية وعطاء في كل مجال.
وبعد أن يعاتب "شربل" الأيام التي أبعدته عن وطنه، وظن أن وطنه نساه، يهتف:
لا تموت، هون، بغربتك لا تموت
وتترك ترابك يلعنك بالقبلا
روح قضّي عمرك ببيروت
ونفّض جناحك من غبار القهر
لكن شاعر "الغربة الطويلة" يريد أن يعود لطرد الغريب، وتنقية لبنان من أدران السياسات التي باعت لبنان لهذا الغريب، وراحت تشحذ اللقمة والسراب على أبواب الغربة والقهر والعذاب:
يللاّ سوا نطرد غريب الدار
الـ ولّع بقلب الدار حقد ونار
الـ خلاّ السما تسودّ بسمومو
وخلاّ بكذبو الجار يدبح جار
..
نحنا اللي كنّا عايشين بعزّ
نتغندر ونمشي متل طاووس
غدرنا ببلدنا وبشموخ الأرز
وبعنا الكرامه بكمشتين فلوس
ثم يعدل عن رجوعه، إذ يتمثّل وطنه على حاله من السياسات العقيمة، ويمعن الشاعر في حرب سجال بينه وبين الغربة القاتلة والمحبّبة معاً، تتجاذبه معاناة الهجرة والعودة، فيقول:
واللي هجر بكّير
صعب تا يرجع
هربان من تهجير
بقوّة المدفع
من سياسة حزازير
من ظلم أوسع
من تم بحر كبير
أطفال عم يبلع
ولكن يكبر فينا الأمل بأن الشاعر لا يلين، إذ ندرك بأن جنونه الوطني أقوى من كل جنون يحيده عن وطنه.. حين يؤمن بأن الشهادة قوام الوطنيّة، ودم الشهيد حياة للأحياء تنمو على زروعه هويات يختمها شعب بخاتم المجد والانتصار والكرامة والحرية والعدل.
ولا سيما، بهذه النظرة الانسانية التي يعيش ويريد لها سواه:
حوّشت نار ونور من عمري
ووزّعت باقات الزهر ع الناس
ونمسك عن ذكر البيت التالي، لأننا نأبى أن ييأس، لأنه يقول:
الناس خانوا ويبّسوا زهري
هالـ كنت حاسب صعب إنّو يباس
شربل بعيني مثل كل المصلحين، يأمل أن تنمو رسالته، ويصاب إذا خيّل إليه أن تعبه هدر جزافاً، ولكن ليطمئن، فإن الذي أعطى مثل هذا العطاء لا بد أن تنمو زروعه، وقد نمت في الغربة والوطن، ولن تأكلها الغربان، ولن تيبس لأنها في تربة مقدودة من قلب وروح ما عايشت غير العنفوان.
ورسالة "شربل" هي الانسانية واللاطائفية، التي باسمها علينا أن نتعمد من جديد، بعدما لوثتنا الحرب، وهو يدين بدين الحب الذي هو وحده الدين:
نحنا شعب واحد بأرض الشرق
عشنا العمر نشرب سوا بالكاس
والمادنه تنده جرسنا يدق
تا نأدن الإنجيل بالجامع
ونرتّل القرآن بالقدّاس
ولكن يستدرك الشاعر فيقول:
شو بتنفع الطوايف
والخالق منها خايف
لو تركع وتتعبّد
وشو بتنفع السعاده
بالصلا والعباده
وشعبك عم يتشرّد
ويعزو الشاعر "بعيني" هذا التشرد الوطني لشيئين:
بيني وبين الربّ
درجتين زغار
أول درجة: الكذب
والكذب أكبر عار
وتاني درجه: الحب
الـ بايعني للدولار
والواقع، لو لم يكن معظم اللبنانيين "دكنجيي" كذابين لما وصلنا إلى ما وصل إليه لبنان اليوم. ولكن لنا الأمل أكبر نعمة وأعظم حصناً، بأننا سنتعلم من الوجع، ونرمم ما هدم ونعيش.
والوجه الآخر "لشربل بعيني" هو شعر الحب، هو فيه كشعره الثوري الوطني: حار عنيف له صراحة الشمس وعفوية العبير، فهو حيناً "يدوخ" من الركض في أثرها، ولو كانت هي الظل، وحيناً آخر يتحاشى وهجها، وفي الحالين يذوق القهر وبعطينا بمثل هذه الرائعة:
معوّد ع شرب نبيد أحلى خدود
معوّد أنا صيّف بأعلى جرود
فيها الكرز محمّر
والعنب مشقرّ
ومنّو لحالو بيتسوي العنقود
وشربل مؤمن صاحب ضمير، يريد أن يحب بعفّة، خائفاً من الخطيئة، ولكنه حائر قدام "المهوار"، مرتبك، تحمله حبيبته على أجنحة الأحلام وتغريه بالضحك والسلوى، وهي تنكّل فيه، وتزرعه شكوكاً وأوهاماً، وفيما يقول منتهى حبه ليعطيها وسعه من العشق:
خدوني زرعوني بعينيها
صلبوني ع ديها
حبسوني بـ قلبا
وارموني ع دربا
هالبنت اللي بحبّا
ويعود يتأبّى بعنفوان:
لو كان عندي للخطيّه ميل
كنت سبحت ببحور عينيكي
وكنت وصلت ع شطّ هاك الليل
مطرح ما فيني إحصل عليكي
والنتيجة أن شربل بعيني شاعر متوثّب، يقول كلمته ويمشي سواء فهمت حبيبته أم لـم تفهم، وسواء أعجب أهل الفكر بقلمه أم لـم يعجبوا، فهو يريد أن يقول حقيقته، ويفهمك روحه ورسالته متجاوزاً بعض تعابير أو أفكار ربّما يتعّمدها، أو لا جلد له على تنقيتها. لا يهمه وزن وصياغة بقدر ما يهمّه بث فكره ومشاعره، فالأسلوب عنده ثانوي نسبة للفكرة والرسالة. وهو يؤمن أن أسلوبه سيتحوّل في الغد مدرسة. ورغم كل بشاعات الحرب والغربة الطويلة التي يقاسيها، فهو دائم التوثّب للغد، كثير الإيمان بنفسه وربّه ووطنه.
العمل البيروتيّة ـ 26/4/1988
البيرق، العدد 91، 29/4/1988
**
براءة شربل بعيني المحببة
لعلّ شربل بعيني من القلّة من الناس الذين يمدّون للحال أسلاكهم من قلب لقلب.
عرفته صدفة في "المربد" مهرجان الشعر في العراق، يباهي بانتمائه إلى شعراء المهاجر، وبأن الإنتشار يحمل مشعل الرسالة الوطنيّة على أوفى ما تكون الأمانة، ويكون الإيمان بالوطنيّة والمجد والخلود، فأكبرت فيه هذا الهوس الفريد في حبّ لبنان، يجنّد له كل قوى الفكر والعطاء في أستراليا مع كوكبة مختارة من أهل القلم الذين رفعوا علمهم فوق كل علم.
وكم أصابتني قصيدته المربديّة عندما تحدّث عن غربته وقهره واحتراقه، لكن هذه الغربة، وهذا القهر، وهذا الإحتراق، كوّنت منه شاعراً يحس آلام الآخرين.
ولا عجب، فقد عمل ويعمل في سبيل أمتّه، ومتى كان المهاجر غير قلب لبنان النابض وشطره الأحبّ؟
الشعر هو إخلاص ومعاناة، وقد لمستهما فيه، وأعوذ الشعر من الهذيان، والمذاهب المصطنعة، فمهما أطلقوا عليه من تسميّات تبقى أحلى تسمية له "الشعر" فقط، لا قبل ولا بعد، ولا فرق بعدئذ كيف جاء لباسه، شرط أن يدخل القلب، ويدعو إلى رسالة وتجدد ومجد.
قرأت له "الغربة الطويلة"، فأصبت للبناني متوثّب شرّدته الأيام عن وطنه الأم، ولكن الجراح كوّنت منه لحناً شاعرياً كالغدير المترقرق على هوس ومباهاة بحبه الوفي، بقلبه المعطاء، بلبنانه المجروح.
ولا يتورّع أن يدلّ على عورات وهنات، وهذا هو الصدق، فالدلالة على الخطأ للاصلاح رسالة المفكر الذي يريد أن يكون شاهداً على عصره، وصدى لشعبه، ومرآة لبيئته، وعصباً ودما في جسده، وظلاً يقيه العاديات.
وقرأت له "كيف أينعت السنابل؟"، فلمست براءته المحببة في إظهار مكامنه كيف جاءت، شرط أن يفهم الجمهور قصده، ولا فرق عنده كسر بيت أم رثّ تعبير، ويقول إن هذا تجديد في الصياغة العربية، وإنه لا يريد من أدبه إلا أن يكون واضحاً، والحال إنه كالشمس وضوحاً، وكالبراءة صفاوة، وكالجدول عطاء.
شربل يعطي من قلبه بعفوية الينبوع والورد، وتقع على شطحات من قلمه رائعة، تبشّر بغدٍ مثمر، يعد له مجداً أدبياً في عداد أدبائنا الكبار.
وحسبه انه يبذر في روح طلابه ومعارفه الروح الوطنية والروح الانسانية البعيدة عن روح التفرقة، التي كثيراً ما تستفيق في شرقنا الملوّع، فتحط به عن الرفعة بمصاف الأمم.
كم أتمنى أن يقرّب الله ذلك اليوم نتلاقى فيه كلّنا تحت سماء لبنان فنبنيه آية في الأمم.
صوت المغترب ـ العدد 974 ـ 18/12/1988
**