مجانين شربل بعيني/ نعيم خوري

أديب وشاعر مهجري راحل

ـ1ـ
يَا مَحْلَى الْعَوافِي
بِرْمُوش الْهَنَا
مْرُوج الْهَوى الصَّافِي
تْغَنِّي مِيجَانَا
وِنْجُوم الْعَوَالِي
بْتِحْكِي بِالْوَمَا
لْهَالْوَطَن الْغَالِي
الِمْعَمْشَقْ بِالسَّمَا
ـ2ـ
تَايِه.. وْشِعْلِةْ نَارْ بِعْيُونِي
فَتِّشْ عَ كَمْشِةْ شِعْرْ
تْشِيلْ الصِّدِي عَنِّي وْعَنِ جْنُونِي
وْعَنْ مُعْطَيَات الْفِكْرْ
طِلِعْ بِـ وِجِّي ضَوّ عَمْ بِيجِنّْ
حِمَمْ بُرْكَانْ كِلُّو فَنّْ
مَازَاتْ جَوْهَرْ لِلْهَوَى.. لِلْكَيْفْ
للأرزْ.. لِلصّفصَافْ.. لِلشّرْبِينْ
تِخْمِينْ شَقْفِه مْنِ الْقَمَرْ تِخْمِينْ
مْعَلَّقْ عَ بَابَا زمْرِة شْيَاطِينْ
مْشِيتْ.. الشَّمسْ شَلاّل.. السَّمَا مْصَافِي
وِالأَرْض عَنِّتْ أَلْف جُرْح وْأَلْف وَعْد مْدَمّرُو التِّنّينْ
وَقْعِت مْوَاج الْبَحْر عَ كْتَافِي
وْصَارِت شْفَافِي تْبَوِّس شْفَافِي
مَدَّيْت إِيدِي تْفَلْفِش الْكِلْمَاتْ
وْتِضْوِي عَ بَاب الْفَجْرْ كَمْ شَمْعَه
حَسَّيْت إِنّو كلّ كِلْمِه سَيْف
بْيِلْمَع اللَّمْعَه بْضَهِرْهَا لَمْعَه
مْخَبَّا بْعِبَّا أَلْف مَعْنَى جْدِيدْ
يِنْسُجْ بِضَوّ الْفِكْر شَمْسِيِّه
وْيِسْكُبْ عَ تِـمّ الشِّعْرْ غِنّيِّه
تْوَعِّي الدِّنِي مْنِ اللَّيْلْ
وِبْلادْنَا مْنِ الْوَيْلْ
حْرَام الشِّعْر يلْبس تْيَابْ الْعِيدْ
وْيِكْرُج عَ جِرْحُو مْنِ الأَسَى تِنْهِيدْ
ـ3ـ
بَعد مَا تَخّ الْوَفَا وْتَكَّى أَرْزنَا
صْراصيرْ لَيْل النَّحْس سَرْقت عِزّنا
حصْن الْبُطُولِه اهْتَزّ وِأْسَاسُو ارْتَخَى
وِتْخَلْخَل الإِيمَانْ.. وِالْوَعْد انْكَفَا
وْلُبْنانْ يَللِّي كَانْ عُمْرَان وْسَخَا
انْكَسْرِت صْفُوفُو.. انْهَدّ مِنْ كِتْر الْجَفَا
مِحْتَارْ لَيْش النَّاس صَارِتْ خَايْفِه
مْجَانِينْ؟!.. كِيفْ بِتْقُولْ؟ تِهْمِه بَاطْلِه!
زَرْعِت الْعَقْل بْألْف مِلِّه جَاهْلِه
الْمَجْنُون عِنْدُو حِكْمتُو.. وْسَاعِةْ صَفَا
وِسْيَاج رَاسُو انْ غَابْ.. وِسْرَاجُو انْطَفَا
بِيضَلّ أَفْضَلْ مِنْ عُقُول مْجَوّفِه
ـ4ـ
لِمْت الرّسُول.. وْلِمْت يَسُوع الْمَسِيحْ
وِعْتَبِتْ عَ شَعْب بِالإِيمانْ صَلَّى
ضِيَّعِتْ حَالَكْ.. وِانْتَمَيْت لْحِزِبْ أَللَّـه
بَعد ما الأَحْزَابْ وِالجَبْهَاتْ كِلاَّ
أَللّـه نَكَرْهَا.. بَعد مِنُّو الشَّعْب حَلاَّ
كأن أللّـه عَاوِزْ هَمْشَرِيِّه
تْبَرِّرْ حَالْتُو.. وْتعْطي هَوِيِّه
بَاب السَّمَا مَسْدُود.. شُو نَفْع الْعِتَابْ
لَو كَان صَبْر الأَنْبِيَا مْنِ الرَّب وَلَّى
وْعَ كِلّ مَفْرَق دَرْب عَلَّقْ مَشْنَقَه
وْمَطْرَح الصَّارُوخ فَرَّخْ زَنْبَقَه
وْلَمْلَم جْرَاحو وْغَسَّل شْفَاف التّرَابْ
وْمِن قَلبْ مَدْبُوحْ بِالْعَصَّاتْ.. دَلاَّ
عَلَى تجَّار خانُوا بِالشَّرِيعَه وِالكتَابْ
كانْ النَّبِي.. وْكَانْ يَسُوع الْمَسِيحْ
الْتَقْيُوا سَوَا.. زِلْزَالْ قَام مْن الضَّرِيحْ
وْنِسْيُوا لْمدِّةْ يَوْم مِفْتَاح النَّعِيمْ
وْكَبُّوا جَحَافِلْ ضَالِّه بْنَارْ الْجَحِيمْ
ـ5ـ
عَاتِبْ عَ أَللَّـه وْعَ مْحَمَّدْ وِالْمَسِيحْ
وْعَ الْـ أَشْرَكُوا بِالدِّينْ وِالْمَبْدَا الصَّحِيحْ
وْسَاوَيْتْ مَا بَيْن خَايِنْ وِالصّحَابْ
وْمَا بَيْن كَافِرْ وْطَيِّبْ الرّؤيَا صَريحْ
وْما بَيْن مِتْسَكِّعْ وْواقِفْ عَ الِبْوَابْ
وْما بَيْن فَادِي عَمَّرْ الْكَوْن الْفَسِيحْ
لَوْ كانْ مَعْنَى الدّر لايِق بِالدّيَابْ
مَا فَتَّح الْعمْيَان أَوْ مَشَّى الْكَسِيحْ!!
ـ6ـ
تْكَسَّرتْ سَاعاتْ هَـ الْغُرْبِه
وْوِقْفِتْ عَقَارِبْهَا
وْيِبْسِتْ أَمَانِي زْرَعْتها بْقَلْبِي
وْجَفِّتْ أَطَايِبْهَا
وْصَفَّى النّدي بِعْيُونْها لِهْبِه
حَرْقِتْ حَبَايِبْهَا
وْصَابِيع عَمْ بِتْدُوبْ بِـ دَرْبِي
بْلَهْفِةْ مَوَاهِبْهَا
شَاب الْوَقْت.. طوَّلْت هَـ الْغَيْبِه
وْظِلِّي تِعِبْ مِنِّي
انْبَحّ الْوَتَرْ.. حَسْبِي أَنَا حَسْبِي
هْمُوم الْوَطَنْ غَنِّي
لَوْ قَطّعُونِي.. وْشَيّعُوا نَحْبِي
بِالأَرْز كَفِّنِّي
تَا تْزَلْغِط التّرْبِه
وْيِضْوِي شِعْر شَعْبِي
لِلشَّاعِر بْعَيْنِي!!
صوت المغترب ـ العدد 890 ـ 16 حزيران 1986
**
رسالة
عزيزي كلارك:
تحيّة عاطرة. أشكر لك هديّتك الثـمينة، وهذه الالتفاتة الكريمة، فيما يختص برسالة الكلمة في هذا المقلب من الدنيا، وأقدّر لك هذا الجهد الكبير الذي قمت به لشاعر أحبّ وأتوسّم فيه كل الخير لوطن يجتاز أصعب وأدقّ المراحل في تاريخه الطويل، ولميدنة النهضة الأدبيّة فتلتحم التحاماً أميناً وصادقاً بمصير الوطن والإنسان فيه.
لا شكّ في أن ما قيل في شربل بعيني وشعره، في أستراليا، لـم يكن من قبيل التشجيع فحسب، بل من قبيل التقدير على حدّ سواء. ولا شكّ أيضاً أن شعر شربل سيزداد مع الأيّام نضوجاً وقوّة، وسيصبح أشمل بعداً وعمقاً ووعياً ومتانة، وخاصّة فيما يتعلّق بالفصيح منه.
شربل يطلّ مع الفجر ولا يغدر به الليل فينام، بل يتوهّج ويتدفّق، فتأتي حروفه سيوفاً من نار، والذين يكتبون بالنار لا يمكن لأعصابهم أن تتقزّز في الجليد.
إنّ مهمّة الشاعر دقيقة جداً، لأنها، وإن لـم تكن تتوقّف عند الحواجز والحدود، فهي ملتزمة بقضيّة الإنسان، ومسؤولة عن تأسيس مفهوم جديد يتخطّى الزمان والمكان ليشمل العالـم بأسره، ويستوعب التاريخ الحضاري كلّه. لـم يعد الشاعر مرآة عصره، إنه صانع العصر، وهو وحده يعطي عصره هديّة مميّزة، يستشرف الأحداث، ويخلق تياراً هادراً يتجاوز القضاء والقدر، ومن يتحدَّ هذا التيار يصرعه التيّار.
عام 1951، في أحد مهرجانات الشعر في الكورة، قلت:
ليس للشعر أن تقول القوافي
أو يقول الإلهام والإيحاءُ
أكذب الشعر لا عذوبة فيه
فَلْيَكُ الصدقُ بأيدي ما نشاءُ
وقامت عليّ ضجّة حسمت دور مفتعليها بالآتي: "إذا أمكن للشاعر أن يكذب على العواطف ويثيرها، فإنه لا يمكنه أن يكذب على حقيقة الرسالة التي تصنع التاريخ، لأن التاريخ لا يقوم على العواطف بل على الحقائق التي تتجسّد فيها قيم الحق والخير والجمال.
وأزيد على ذلك اليوم، يا عزيزي كلارك، أن الذين ينتظرون منّا، نحن أهل الشعر، أن يكون إنتاجنا مجرّد مخدّرات لتخفيف الآلام والأوجاع، فإن انتظارهم سيطول لأن مسؤوليّتنا أن نهزّ مطارح الجمود، وأن نخضّ مستنقع الفكر الآسن، نقضي فيه على التنين، ليشرق الفجر وتكون النهضة في خدمة الأجيال الطالعة والتي لـم تولد بعد.
هذا إرثنا، وهذه أمانتنا، وهذا هو خطّنا. مرة ثانية أشكرك، ولك مني تمنيّاتي الطيّبة.
سيدني في 13 آب 1986
**
شربل بعيني وكيف أينعت السنابل؟
مجموعة شربل بعيني (كيف أينعت السنابل؟)، الصادرة عن دار الثقافة للطباعة والنشر في سيدني عام 1987، سمعت بعض قصائدها، وقرأت بعضها الآخر في الصحف والمجلاّت المحليّة، فما الذي يدفعني إلى الكتابة عنها؟
من حقّ القارىء أن يسأل وأن يملّ، ومن حق شربل نفسه أن يتساءل: ألـم يحن الوقت ليحل نعيم خوري عن ظهري؟
إلاّ أنه من حقّي أنا أيضاً أن أعترف بأن قراءة متتابعة لقصائد مجموعة بين دفتي كتاب تعطي نكهة تختلف لوناً وتذوقاً عن قراءتها متفرّقة ومتباعدة في مدار الزمن. صحيح أنها هي ذاتها لـم تتغيّر، ولـم تتبدّل، ولـم ترتد ثوباً جديداً، إنما في تواصليتها تزيد الرغبة في القراءة من هـم القارىء، وتركّز على اهتمامه، فيزداد في العمق اكتشافها للمكنونات النفسيّة، ومصادر احتقانها وتفلّتها، هذه هي الحقيقة، فإذا تجاوزناها، تترك في ذاكرتنا نقصاً لا يعوّض.
ولذلك عمدت إلى قراءة (كيف أينعت السنابل؟) بدءاً بمقدّمة الدكتورة سمر العطّار. إن من يتناول هذه المقدّمة من الناحية الظاهرية للمضمون، يحار ويتساءل: هل هذه مقدّمة لمجموعة شعرية أم سيرة حياة الشاعر؟. هل هي موجة عواطف في زمن يابس الأحاسيس والشفاه؟ أم هي نافورة نور تتسلّط على الأيّام التي دحرجتها العتمة؟ أما من جهتي فإنني اعتبرها انقلاباً أبيض ناجحاً على الرتابة المتبعة في تقديم المؤلفات الأدبيّة والشعرية، وأتصوّر الدكتورة العطّار قد جلست تستمع إلى قصّة حياة شربل، وتسجّلها على شريط ضوئي حتّى إذا ما فرغ هو من سردها، عادت هي إلى التركيز على أهميّة ما تركته الأحداث في نفسه ليتفجّر شعراً، وسكبته في قالب لغوي سلس شيّق صحيح، لا ينتهي القارىء فيه من موسم ألـم حتى تتتابع عنده مواسم الرجاء، وتتفتّح له آفاق لـم يصفق عليها جناح خيال. وتزيد سمر على ذلك (فضولها العطّاري) المستحب على عذوبته ورقّته وإخلاصه، فتحاول أن تدخل إلى ذات شربل لتتكشّف البعد الإنساني الذي يبني عليه، وينهل من مواهبه الشعرية. هذا (التحرّش) البريء، على إحراجه، يسقط القشور، فيبدو الزمان، غياباً وحضوراً، بلا ضفاف ولا حدود.
أنا لا أعرف سمر العطّار، ولـم ألتقِ بها إلاّ من خلال ما كتبته، ويتبيّن لي أنها تنطلق من وجدانها، وهذه الميزة أتاحت لها أن تستوعب الحقيقة، التي من أجلها كانت مجموعة (كيف أينعت السنابل؟)، لأن مجمل قصائدها تنطلق من الأرضيّة التي صهرت بآلامها شربل بعيني، ففجّر غضبه ناراً تحرق فتأكل الزمن الرديء، ونوراً يشعّ فيستجلي جمالات المصير.
وفي رأيي أن شربل بعيني يتمتّع بشاعريّة فجّة، ولكنّها خصبة مطعّمة باللهب الإنساني، فكأن ـ عنده ـ كل الكون حلم دائـم، لا مذهبي ولا صوفي، يرشق الإنسان ويزوّده بخمير الكينونة، ويتميّز بما فيه من الإيمان والمحبّة والفداء، ومن العقليّة الأخلاقيّة الجديدة التي تصنع التاريخ، أو هو الشعر ذاته جفن مشتعل يغلّ في الأشياء المرئيّة واللامرئيّة، وينهب أسرارها ليقدّمها معرفة يتموّن منها العالـم. أو هو قلق لاهب مستعصٍ يمشي على شفير الشكّ، ويتأرجح بين اليقين والحسبان، يغمر الإنسان والوطن والأرض بالجراح التي تزهر إيماناً بالحياة. ولذلك أراه يعاني مشكلات فكريّة ليست مجرّدة أو معزولة عن الزمان والمكان، بل منبثقة من صميم الواقع الحي، وقيمته فيها أنه عبّر عن هذه المشكلات بوجهة نظر جديدة، وبالتالي ابتكر لها أساليب وأشكالاً جديدة مختلفة، قد نوافقه عليها وقد لا نوافق. الأهـمّ من الموافقة أو عدمها، أنه ما زال مكبّاً على العطاء، والمستقبل كفيل إمّا بغربلتنا نحن أو بنخله هو.
غير أنه، وهو يعالج هذه المشكلات في تركيبته الشعريّة، قد خلق لنفسه مشكلات أخرى، يصطدم بعضها بالبعض الآخر. من هذه المشكلات عجقة الكلمات والصور واللوحات، وتناقضها، وكركرتها، وتوثّبها، وتوترها على غير قاعدة وانتظام، وبدون ضابط أو مصاهرة بين الحالة النفسيّة وعواملها من جهة، وبين الرهان الجدير بالشاعر الحقيقي على استخراج ماهيته من اللهيب من جهة ثانية. وهذه الظاهرة مرضية في الشعر، ترفض من أجل الرفض، وتهدم في سبيل الهدم، وكأن الحالة السلبيّة لا يكون علاجها إلاّ بحالة سلبيّة أخرى أكثر خطورة وأشد خطراً، وهذا محظور حاول شربل أن ينقلب عليه، فوقع في شراكه.
ثـم إن التكرار المجاني، والخلط بين الفرار والمجابهة وبين الأنقياء الأحرار والأذلاّء المستصغرين قد حرم المجموعة الكثير من لمعانها الشعري، وأفرغها من بطانيتها الفكريّة، وخلخل بنيتها، حتى لتحسبنّها لقيطاً من رذاذٍ تركته غيوم عابرة على أكتاف الريف.
ولا بدّ من أن نلاحظ أننا، نحن وشربل، من هذا الزمن.. فأي منّا نصف غبيّ، أو غبيّ كامل؟ ولماذا يطرح درره على الخنازير؟ أم أننا لسنا، لا نحن ولا شربل، من الكتّاب والشعراء، بل دخلاء على رسالة الأدب والشعر الصانعة التاريخ؟!!
وشربل نفسه يعاني أيضاً من عقدة التجربة، وهذه المعاناة جعلته يطلّ على انفتاح أفق جديد، وحالة تهزّ الأعماق، وتشدّ الإنسان بلهفة إلى الغد، فيعبّر عن انهيار الحدود بين الإنسان والكون والقلب والعالـم. أمّا الشكل، وأمّا الصيغة الشعريّة، فليست لهما أيّة قيمة عنده. لقد انعتق من الأنماط التقليديّة، ليعطي لنفسه أنماطاً جديدة تتوافق مع نظرته الجديدة وتوقه إلى التحرّر من كل ما ورد من أشكال، لكنّه لـم يستطع أن يتحرّر كليّاً من الأوزان والقوافي، بل اختلطت لديه، وتشابكت وتنافرت حتّى بدت وكأنها سوق للمزاد العلني.
في يقيني أنه ما زال في بداية الطريق، وعليه أن تنتهي إلى زيادة في الانطلاق نحو إيقاع جديد وموسيقى داخلية صحيحة منسجمة أخّاذة، تنبعث من التحام الوحدة الفنيّة في القصيدة بمجموعها وبمختلف أجزائها.
إنه، بلا شك، يمتلك مدّاً وافراً من ناحية اللغة، لكنّه لا يمتلك ناصية العروض، وحجّته في ذلك أن الحياة في الحريّة، على ما فيها من علاّت، أفضل مما تقدّمه الأقفاص ولو ذهبيّة. غير أن الحريّة ذاتها لا تكون مطلقة وغيبيّة، بل هي ذات نظام يعترف بحريّة الآخرين، وذات مفهوم يعين مضامينها ومعاييرها ومقاييسها، وإلاّ أصبحت تشويشاً وفوضى ومدعاة للرعونة والتسيّب. وهذا ما لا يريده، أو يرضى به، أو يقصد إليه شربل بعيني.
إن أوزان الشعر تخدمه ولا تحدّ من حرّيته بحيث هي تعبيريّة، بمعنى أنها تتكيّف حسب المعنى الذي هو الأصل، ولا تتهدّم في سبيله مهما كانت الغاية. وتكيّفها هذا لا يجعلها تتنعّم بأيّة قداسة. فإذا أردنا ابتكار أشكال جديدة فعلى هذه الأشكال أن تلتزم بتفعيلة خاصّة، لا أن تكون لها، في القصيدة الواحدة أو في المقطع الواحد على الأقل، تفعيلات مختلفة تخنق الرنّة الموسيقيّة وتعطّل الفنّ الشعري.
قد يعجب البعض: لماذا أحاسب شربل على هذه الأشياء الدقيقة جداً، وقد تخطتها عوامل ومحاولات التبسيط للغة ولما يتفرّع عنها من فنون؟ ولذلك أبادر إلى القول: إني أحاسبه لأن له في نفسي منزلة خاصّة، ولأني، مع رعيل الذين تقدّموه، أنتظر منه أشياء كثيرة، وأتوسّم فيه الأحب والأفضل والأكمل.
انطلاقاً من هذا كلّه، أعتبر شربل بعيني شاعراً من شعراء الفجر. إنه من شعراء النخبة المشتعلة بوهج المرض الطليعي، لا نخبة الذين يدّعون الثقافة يوم لـم يعد لهؤلاء المثقّفين فجر يحرق عتمة.
صدى لبنان ـ العدد 547 ـ 26 أيار 1987
**
من نعيم خوري إلى شربل بعيني
ـ1ـ
يا شربل..
في طريقك إلى المربد، تذكّر:
أنّك شاعرٌ
بساط الريح طوع جناحيك،
وقباب السماء قناطر لقدميك.
لعينيك تتراقص النجيمات،
وفي حناياك تتغلغل الشمس.
على كفّيك تنبسط الأبعاد،
وفوق كتفيك ينشلح تاريخ طويل.
كما في طيرانك،
كذلك في شعرك،
أنت أبداً تحلّق،
تطلّ من دنيا ليست كدنيانا،
وتنسكب شلاّلات لـم تخطر ببال،
وتسرح في أخيلتنا كما لـم يسرح خيال،
تشيع فيها الحبّ والثقة والتمرّد.
ـ2ـ
يا شربل..
في طريقك إلى المربد، تذكّر:
أنّك من هذه الجالية في مطارح الشمس البعيدة،
في المقلب الآخر من الأرض،
في المنافي التي صنعتها الأنظمة والمخابرات.
أردأ من الزمن الرديء،
كنّا ولا نزال،
لأننا له طواعيّة ومستسلمون،
ولأننا في عيوننا
زرعنا المخارز التي من آلامها نعاني،
وفي وجداننا
غضبة العار،
الذي من ويلاته نتوزّع على مزابل التاريخ.
ـ3ـ
يا شربل..
في طريقك إلى المربد، تذكّر:
أنّك أحلى خرافات هذه الحياة،
وأجمل قراءاتها،
وأصدق عناوينها،
والقصائد "الـ كتبتها"
أو أنشدتها،
أو أهملتها،
لـم تكن حماقات،
ولـم تكن حمّامات دخان،
إنّها أضواء الخرافات
في عالـم يكره نفسه،
لأنه يكره الحقّ،
ويكره الحبّ،
لتكرهه الحياة ويكرهه الموت.
ـ4ـ
يا شربل..
في طريقك إلى المربد، تذكّر:
أنّك لست من النخبة المصابة بمرض الطليعة،
أو ظاهرة الريادة،
ولوثة الانحراف،
بل أنّك صوت يدوي كما الرعد،
ويقظة تتوثّب كما البرق،
وإنّك أنت
ضمير هذه الجالية المتوهّج
وقلبها الذي يحبّ الحياة
لأنه الأقوى من الموت.
صدى لبنان ـ العدد 572 ـ 17 تشرين الثاني 1987
**
عواصف
دانيال النبي يتوشّح بالرؤيا. ينفض غبار الأزمنة، يجلي صدأ الوثنيّة المدمّرة، وصوت الربّ يصرخ في البريّة، فيتحرّر الملكوت من قرصنة البرابرة ولوثة الفريسيين.
يوحنا فـم الذهب كان ـ منذ البدء الذي كان الكلمة ـ يتوهج بالحكمة، يحمل بشارة الخلاص، ورسالة المعلم إلى الكون، ينشر نور المعرفة في العالـم، يحوّل امتثال القطيع إلى إدراك فاقتناع فإيمان مطلق بإله واحد خالق السماء والأرض، وكل ما يرى وما لا يرى.
الخضر على صهوة. تشتعل الأرض من تحته. تتهيّب الشمس ظلاله. يسحق التنّين. يهدّىء اضطراب الأعصاب. يزرع الثقة في النفس. يقول للناس أنتم من أمة كم من تنين سحقت.
في طريقه إلى روما، ساور بطرس الشكّ فقرّر العودة، وإذا بصوت السيّد يصرخ: بطرس، يا بطرس، لا تصلبني مرّتين. أنت الصخرة، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي. وكانت الطريق، وقامت كنيسة اللـه بيتاً وملاذاً وهدى للخليقة.
وتطول المسالك وتتشعّب، ترتفع في التاريخ منائر، أو تنطرح على أرصفة الأزمنة أوكاراً للصوص. بين الفجر الذي أحرق العتمة وأول مدماك من عمارة الحضارة محطّات ليست من شغل القدر، بقدر ما هي من صناعة البشر. بعضها يدخل في مدار الرؤيا، وبعضها في نطاق التكهّن. أسهمت إلى حدّ بعيد في مواسـم الأمل والرجاء والحلم الإنساني، كما كانت سبباً في تقويض الناموس الذي منه وفيه ينشأ هيكل الألوهة. إنه من شأن اللـه أن يغفر للمسيئين إليه، وأن يسامح الأشرار، ويطلق سراح برابسة العصر. ولكنّه ليس من شأني أن أشارك في الصلاة مع العابثين بروح الغفران واستغلال هذه الروحيّة لزرع بذور النفور والشقاق، واستثمارها في ميادين الصغائر لباساً مزيّفاً للمؤمنين.
في هذه المرحلة الدقيقة من التاريخ، مرحلة يراهن فيها الكثيرون على الهوس والتزمت والضلال وهستيريا الغرائز، حتى حدود الزندقة، ويدخل معها الوعي في دوّامة الصراع مع الفراغ، حتّى ليبدو أن الطوفان لـم يعد بعيداً، وأن تدمير بابل الجديدة بات وشيكاً، في هذه المرحلة يطلّ علينا رجل دين ـ ولا كل الرجال ـ هو سيادة المطران عبده خليفة رئيس أساقفة أستراليا ونيوزيلندا للموارنة، من خلال ما قدّم مجموعة "أللـه ونقطة زيت" للشاعر شربل بعيني، وكأنه تجدّد الإيمان مع موعد القيامة المجيدة.
هذه ليست فقط توطئة ولا مقدّمة ولا دراسة لأربع وعشرين قصيدة. إنها سلوك رائد في الإيمان، ونهج في العبادة، ودستور حياة للذين يطلبون الحياة الراقية، يعبّر فيه سيادته عن انفتاح شامل على دقائق هذا الوجود، حتى إذا ما وعينا هذه الدقائق وعياً كليّاً واضحاً وصادقاً استطعنا اجتياز الأحداث، وتجاوزنا قطوع التجربة وما تجلبه من ويلات ومحن. هذا السلوك في الذاكرة سيلمع وينوّر، كما اللآلىء والآيات. وسيبقى له صدى، كما المزامير والتراتيل.
لنسمع:
"أن ينحرف الإنسان عن هدف اختطه لنفسه فهذه حريته"، احترام الحريّة الشخصيّة في الإنسان احتراماً ينذر: "لكن هذا الانحراف هو دينونته"، تقاليد الدين وشعائره هي في الممارسة العمليّة الصحيحة الأمينة في دلالاتها على رسالة الدين: "تقاليد الدين وشعائره هي بما تدل عليه التوجّه إلى عل، ولكن الدجّالين يضعون هذه الشعائر مقام اللـه خدعة للبسطاء في جمع المال الحرام”.
"هذا المسيح الذي هو الكل لا يستحقّ أن يتنكّر له الناس"، نداء صارخ في البريّة. المسيح الذي هو الكل، هو في الكلّ ومن الكلّ وللكلّ، لا يجوز ادعاء الاستئثار به واحتكاره والمتاجرة باسمه.
في الصحبة والإيمان والتسامح والغفران والتعالي على الجراح نتعرّف إلى المسيح. في الضغينة والحقد والكفر والتعصّب والاستغلال نتنكّر له وننكره ولو صاح الديك ثلاثين مرّة ثلاث مرّات.
"نميّز بين ما هو خرافة وما هو تعبير عن حقائق روحيّة". الغيبيّة لا قاعدة لها، إذن هي خرافة. والدين ليس بالاجتهادات الخرافيّة مهما زيَّنَّا لهذه الاجتهادات وروّجنا لها، لأن حياة الإنسان ليست في الغيب.
والحقائق الروحيّة في الدين، هي النور الهادي، درب الخلاص في التوجّه الأسمى المجرّد عن الأنانيّة والتسلّط والأثرة، والذي يستأصل الفضائل والقيم العليا.
"إذا كنت مؤمناً أعيش ديني وأتأمّل في كتبي، وأعمل جادّاً للوصول إلى كمال يشرحه ديني ويطلبه منّي، إذ ذاك أحترم دين الآخرين، وأتوصّل إلى محبّة الديانات الأخرى وأحترم وأقدّس مبادئها". هذا هو الطريق السليم القويم الأفضل فهم الخصائص الدينيّة وترجمتها على الأرض ـ نعيم الإنسان ـ ، وكل تأمل آخر في الدين هو عمليّة تشويه وتزييف لهذه الخصائص، تعطّل طاقة الإنسان، وتدمّر كيانه. وهذا الطريق وحده يقطع كل الطرق التي تؤدي إلى التنابذ والتناحر والاقتتال على السماء، والدعوة إلى اقتسام مملكة اللـه في عقليّة وثنيّة جامدة، لا تفقه معنى الدين، ولا تأتي على ذكر اللـه إلاّ باطلاً.
فاقرعي، اقرعي يا أجراس أورشليم، يا أجراس العودة إلى اللـه، إلى وجدان الإنسان وقلبه.
صدى لبنان ـ العدد 587 ـ 15 آذار 1988
**
عواصف
لقد هاجم نعيم خوري صديقه شربل بعيني مرّة واحدة طوال رحلته الأدبيّة، ولكنه عاد واعتذر منه بعد عدّة أيّام في عواصف لاحقة، بعد أن اتضح له أن شربل بعيني لـم يكن يقصده فيما كتب عن كامل المر، لأن المقال نُشر قبل سنوات في مجلّة الوفاق.
ستوب.. ستوب.. ستوب.. ثلاثاً.
لقد كتبت مراراً عن شربل بعيني وإليه، وكنت في كلّ مرّة صريحاً وواضحاً ومخلصاً وأميناً على مضمون الكلمة وحرّيتها. فأنا في تربيتي وطبيعتي لا أتلوّن، ولا أحابي، ولا أرائي. وقلت فيه إنه يعطي من محبّته ومن عفويّته، لا يرجو منّة ولا يطلب شكوراً. هكذا عرفته، وهكذا فهمته منذ أن تعارفنا في ظلال هذا المغترب. ليس هنا مجال المحاسبة الذاتيّة فيما إذا كنت قد أخطأت التقدير أو أصبت. أهم من الخطأ والصواب أنني، كعادتي، انطلقت من وجداني فسجّلت موقفي.
أنا ما تغيّرت ولا تبدّلت، وما زلت أنا نفسي، أختار أصدقائي وألتزم بأخلاقيّة الصداقة وعمقها حتّى يغيّروا هم ما في نفوسهم، أو ما في بنيتها. ما غدرت. ما طعنت بالظهر، ولا دخلت الخساسة نفسي، والتفاهة أقوالي أو تصرّفاتي. ما اغتبت أحداً، ولا ألصقت به تهمة، أو أطلقت عليه وشاية. ما تجنّيت ولا تسبّبت بتعاسة. من النور تطلع كلماتي، وفي النور أزرع مشاعري. من اللهب الإنساني تنبع معاملتي، وفي القيم والمثل العليا مصبّها. وفائي يضجّ في الشرايين، ووعيي يمارس سطوته على أعصابي، لتخرج الذاكرة من مرحلة الانفعال إلى المحبّة، التي ترفض أن تتحصّن في شرنقة الاختناق، فتسعى أبداً ودائماً إلى نضارة الوعد وبهجة الصباح.
ولذلك قرأت مرّتين، وتساءلت ثلاثاً: هل يعقل أن يكون شربل بعيني قد كتب ذلك؟ لماذا تتخطّى "خصوصيّاته" الحدود، وتتجاوز العرف، وتنتقم من الحريّة بإلصاق أبشع التهم وأحطّها بشرفها وكرامتها؟ لماذا أطلق سهام توجّعاته على الجميع ـ الأصدقاء والخصوم والأعداء ـ فلـم ينجُ منها أحد، باستثناء صديقنا المشترك كامل المر؟ وهذا ما لا أحسد كامل المر عليه، أن يكون شاذّاً على الشذوذ!! وطالما أن الأمر على غموض تام، والعلّة وحدها في نفس يعقوب المجهول الهويّة والغاية والقصد!!.
لنقرأ معاً ما يقول شربل: "عكس هذه الدنيا التافهة الوسخة التي لـم يعد بمقدورك أن تصاحب إنساناً آخر فيها، مخافة أن يطعنك بظهرك متى سنحت له الفرصة، ولا أن تغرم بمخلوق من مخلوقاتها نظراً لخساسة نفسه وشيمة الغدر التي يتّصف بها. كامل المرّ، الرجل الطيّب الذي ينعتونه بالمرارة ظلماً وعدواناً ـ من ينعته؟ـ بينما هو يكاد يذوب لشدّة حلاوته..".
لا أدري، ولا أريد أن أدري، ما الّذي أغاظ شربل فأغضبه؟! هذا من شأنه وحده، من خزانته، ومن شيئيّاته التي تختصّ به دون سواه.
ولكن هل أذكّر شربل الّذي يدعو إلى المحبّة، ويبشّر بالأمل، بقول إيليّا أبي ماضي:
أيّها المشتكي وما بك داء
كيف تشكو إذا غدوت عليلا
إن شرّ النفوس نفس بؤوس
تتمنى قبل الرحيل الرحيلا
.. والذي نفسه بغير جمالٍ
لا يرى في الوجود شيئاً جميلا
أو هل أقول له: إن الدنيا ترد إلى يسراك ما أعطتها يمناك؟ وإن أصدقائك، من اختيارك أنت ـ أقرب إليك من صلة الدم؟
أو هل أدرك شربل أن أصدقاءه هم قرّاؤه، وقرّاء "صدى لبنان" التي فتحت له قلبها، فراح يطعنهم ويطعنها معاً؟
وهل تطرّق إلى ذهن شربل أن من يعامل السَّيِّىء بسوئه، والشرير بشرّه هو أشدّ منهما سوءاً وشرّاً. وأن الأديب ليس مرآة زمانه، بل هو الذي يخلق الزمن الجديد، وأن الشاعر لا يصوّر عصره، بل يصنعه فيدخل التاريخ؟
مرّة ثانية، لا أدري إذا كان شربل قد أساء في اختيار الأصدقاء؟ أم أنه قد أساء في اختيار مواضيعه وكلماته فخبط خبط عشواء، امتهنته الكلمة، أم أذلّها واغتالها.
إني لا أزال على محبّتي لشربل، ولذلك أخشى عليه أن يقع ضحيّة نفسه، أو فريسة سويداء الظنون.
ما تراءى لي أن يكون شربل صورة عن الإنسان الغابر، بل توسّمت فيه الرمز المضيء للإنسان الآتي.
النكرات وحدها لا يتعاطى الناس بشأنها، لا ذمّاً ولا مدحاً.
صدى لبنان ـ العدد 611 ـ 30 آب 1988
**
عواصف
في هذه العواصف يعتذر نعيم من شربل بعيني بإباء ملفت، وبأسلوب نادر لا يماشيه أسلوب. إنه، عكس بعض المستأدبين، يعرف أن قيمة الأديب تكمن في مصداقيّته الشامخة، التي بها يعلو، وبمعونتها يمتشق سيف الكتابة.
احمل السلّم بالطول أو بالعرض، ما همّ، المطلوب أن تبقى سلّمك تتحرّك. واحمل صليبك وامشِ، أو توقّف على الرصيف، فإن صليبك لن يسقط عن كتفيك ما لـم تسقط كل خطاياك.
اكتب على ورق الورد، أو على ورق التين، أو على بساط الريح، كل الأوراق تتهاوى وتهرّ، إلاّ أوراق التاريخ، فهي، إلى الأبد، باقية.
قل الشعر الفصيح أو الدارج، المحكي أو المكتوب، المستحدث أو التقليدي، النازل من أزياء الواجهة، أو النازف من لهيب الجراح. إن كنت بائع فلافل أو ترمس أو بصل، أو كانت تلفّك اليزرة وأنت تعمل في الشورما بتراً وتقطيعاً. المهم أن يكون الشعر شعراً يضجّ فيه نبض الحياة، لا شعراً ينتظره الموت عند كلّ بوّابات الأرض.
قد يكون من يبيع البسطرما على قدر كبير من العفّة ولنظافة والألق الفكري، أمّا سعدان المواقف فليس له موقف. إقرأ الصفحة من اليمين إلى اليسار، أو من اليسار إلى اليمين، من فوق إلى تحت، أو من تحت إلى فوق، ليس من الضرورة أن يكون لك نهج محدّد، أبعد من النهج المعيّن تعيين الغاية من المكتوب، وفهم المضمون ووعيه على حقيقته، لا مسخه على الطريقة التي تتصوّرها أنت، أو صبغه باللون الذي تتوهّم.
تنطنط فوق كلّ كلمة تقرأ. أمحُ سطراً. أشطب صفحة. كل معلّبات الزمن لا تساوي نقطة على السطر، وكل ثرثرات المجالس لا توازي حرفاً يخرج كالسكين من القلب، وكل ذبذبات الأعصاب لا تستطيع أن تقطع أوتار قصيدة. أنت هو أنت. الشعر حياة الشاعر. الباقي التفاتات هامشيّة على الطريق.
القليل من الحريّة أفضل من الحرمان. الكثير من الدهشة يرطب الهواء بالعفونة والتراب بعار الانكسار، ولعل في ذلك كل انبهار بهلويّاتنا.
إن الذين، منذ أسبوع، توقّفوا عند هذه الزاوية، وخرجوا بانطباع مغبّش عن صداقتي لشربل بعيني، قد أساءوا إلى نفوسهم، وإلى قراءة التاريخ.
والذين اعتقدوا أن هناك فتوراً، أو خلافاً، أو مناخاً متوتراً بيني وبين شربل، قد أخطأوا مرّتين: الأولى، أن صداقتنا ليست بهذا الزهد، وليست جاذبيّة مصالح، فتشتد أو تتمطّى، أو تتراخى وفقاً لتيّارات الغرض وأهوائه الرخيصة. والثانية، أننا لا نلتصق بخلاف ـ إذا وجد ـ فنصبغ فكرنا وأدبنا. وشربل الذي كتب "ستوبه" قبل أن يكون فيما بيننا تعارف، ونشره في مجلّة "الوفاق"، على أثر صدمة نفسيّة انتابته من الذين يجيدون فن الاستدراج والانتهاز والاستثمار، عاد إلى عتيقه، يجدّد شبابه، نتيجة لصدمة مماثلة، فرأيت كصديق وفيّ له كنت ولا أزال وسأبقى، أن أكون كل أصدقائه مجتمعين، فأنتشله من امتعاضه النفسي، إلى حيث يجب أن يكون ويستمرّ الوجدان المضيء للإنسان الآتي.
وإذا كان الردّ شديداً وقاسياً وحادّاً، فذلك لأن إخلاصي لا يعرف الإلتواء، أو السلبيّة، أو المداهنة.
وطعن تعني ضرب ووخز وقدح وعاب، ولا تعني مطلقاً الغدر أو الخيانة، فأين ما يثير الاستياء ويفرض التجريح؟ وهل لي أن أتّهم شربل بما ليس فيه، بل ما هو بعيد عنه وغريب؟
تجاوز كل النتوءات يا شربل، وتخطَّ كل المقالب والمطبّات، فليس بعض الذين تفتح لهم قلبك، لهم قلوب فتنفتح.
قد نقرأ وعيوننا مغمّضة، أما نفوسنا فلا تعرف الانطفاء، وأما الفكر فسيكتب كل يوم مجداً جديداً لزمن لا يعرفه إلا الرجال.. زمن لـم يولد ببال.
صدى لبنان ـ العدد 612 ـ 6 أيلول 1988
**
عواصف
إطلالة الشاعر من إطلالة شعره. بقدر ما تكون هذه الإطلالة غنيّة، راقية، سامية، بقدر ما تكون أشبه ببصّة النار، تزتّها الشمس على قرص الأرض فتضيء وتلهب، وتفجّر من العدم ماويّة الحياة، وديناميكيّتها الخلاّقة المبدعة.
أمّا طقسيّة أن يكون الشاعر مرآة عصره، فمفهوم مات من زمان، وصارت مهمّة الشاعر أن يغني العصر باللهيب الإنساني، ويفتح له آفاقاً جديدة في صناعة التاريخ، وهكذا يكون قدر الشعر أن يكون هو ذاته الحدث التاريخي، لا أن يكون حديثاً أسطوانيّاً تفرزه المناسبات في حالات خاصّة، على أرصفة الأيّام، يتعكّز عليه العابرون أو تستلذّه شهوة الحشاشين، وتتلقّفه أيادي النشالين.
المعقول في الشعر هو الذي لا ينحصر في دائرة العقل بل يخرج ليطارد ما يشوّه العقل ويعطّله، إلى خارج دورة الحياة، فلا يبقى له أثر قادر أن يعرقل حركة الوجود وتطوّره. واللامعقول في الشعر أن يقولب، أو يترهّب في شرنقة العلم، أو الفلسفة، أو اللاهوت، فيصير لعبة السلفيّة التي تتعاطى مع الحاضر بقوننة بالغة الخطورة، في عمليّة إحالته إلى المستقبل محنّطاً بكل ما فيه من شرور ومفاسد وأباطيل. ولذا فالشعراء الذين يكتبون بدموعهم وبندى جبينهم وطول ألسنتهم ليسوا سوى أقزام يعتمرون أحذية الزمن، وينظرون إلى خيالهم، فتطير بهم المخيّلة إلى الانفعال والرجرجة والتفسّخ. أما الشعراء الذين يستوصون أوجاع الإنسان وآلامه وطموحاته، فيكتبونها باللهيب والدم، فيأتي شعرهم عالماً متجدّد القيم الحضاريّة، مستأنساً بالمستقبل، يبنيه حجراً حجراً، وإنساناً إنساناً، ليبلغ أبعاده النهضويّة فيقيم الوجود ويبطل العدم، إنهم العمالقة.
ولغة الشاعر ليست مجرّد حروف وكلمات وصور، أو بحور وتفاعيل وموازين. إنها مداميك العمارة الشعريّة، مداميك البناء الذي يسكنه الكون كلّه. هي البيادر ومواسم الغلال. هي الأرض والعطاءات التي لا تحدّ. هي البحر بأمواجه وأعاصيره، وهي الريح بهدوئها وجنونها. هي الأمل وهي خيبات الرجاء. هي العقل الذي يحاور العقل فوق المزاجيّة وفوق التسليم بالأمر الواقع. هي الليل والنهار والشمس والضباب والغيم والمطر والتراب وعيون التاريخ الذي يضجّ بالخلود. والويل للشاعر الذي يفرك دماغه بحثاً عن الكلمة، أو ينبش قبور الذاكرة سعياً وراء التعبير، لأن القصيدة ـ كل قصيدة ـ تفرض حالها، وتفرض الصورة التي تريد. وهي وحدها تختار كلماتها وتعابيرها، فتنصب على الورق أضواء لا أبهى ولا أنقى، وتنجلي المعاناة عن مناخ لا أحلى ولا أصفى، ما عدا ذلك يأتي الشعر تكلّفاً يغلب عليه التشويش والفوضى والضحالة، وتنقلب الموهبة إلى كابوس رهيب يسد الأبواب والنوافذ ومطالع الإبداع.
هذه اللغة الفريدة التي تختصّ بالشاعر ترفض عليه توسّل العطف، والسماح، والمغفرة، أو الرحمة. في التوسّل تسوّل وارتزاق وارتداد إلى المهانة. حتّى اللـه يرفض الذين يختارون العبوديّة والزندقة والفجور، ويأبى على الإنسان أن يركع إلاّ في الخشوع الإلهي. أللـه لا يتعظّم في انكسار الطرف، وفي ذلّة النفس. أللـه في الإنسان قلبه وضميره ووجدانه، الحيّ الحرّ أبداً، المتوثّب دائماً إلى الرسوليّة. إذن، هو النقاء والمجد والعزّ وتقبّل الجراح التي منها يشرق الفجر الخلاصي.
هكذا أفهم مجموعة "أللـه ونقطة زيت"، التي صدرت مؤخّراً للشاعر شربل بعيني. إنها مثل "أحد الشعانين"، فيه من دفء الإيمان وبراءة الطفولة ما يعبر عن دحرجة الصخرة وإشعاع القيامة. "أللـه ونقطة زيت" ليست اقتصاصاً من الإستغلال والابتزاز والتدجيل، بقدر ما هي ـ في شموليّتها ـ احتجاج على الصمت، على نظام التعتيم على الشرور والمثالب، وعلى تفاهة المسؤوليّة التي لا تحترم رسالتها. هذا الاحتجاج الصارخ يخضّ مستنقع اللامبالاة والذلّ ويهزّه، ليقوّضه على رؤوس المتلبّسين مظاهر الغيرة والعفّة.
شربل بعيني ـ الشعر والشّاعر ـ أحبّه كثيراً لأنه يخطىء كثيراً، ويخطىء كثيراً لأنه ينتج كثيراً، وينتج كثيراً لأنه يعمل كثيراً.
أوَليس الكثير من الخطايا أفضل بكثير من نعمة الصمت، الذي هو بحدّ ذاته رذيلة؟ وهل يسكت عن الباطل إلاّ عبيد الباطل؟
صدى لبنان ـ العدد 586 ـ 8 آذار 1988
**
رسالة
عزيزي شربل:
تحيّة أدبيّة..
اطّلعت فيما سبق على أحد كتبك المدرسيّة، وأبديت لك إعجابي في ذلك الوقت. واليوم، أتيحت لي الفرصة للإطلاع على كتابك الأخير (دروب القراءة)، فوجدت فيه قفزة نوعيّة موفّقة، وتطوّراً إيجابياً في التصميم تبويباً وأسلوباً ومادة، ومجهوداً علمياً اشتركت فيه الموسيقى اللفظيّة، ورهافة الحسّ، وشفافيّة العاطفة، لتسهم جميعها في إنعاش اللغة وجعلها أكثر دفئاً وتشويقاً للراغبين في استيعابها.
ورأيت أن هذا الانتعاش يتمثّل الغزو العاطفي في شكل يحرّض على حبّ القراءة والاستزادة منها، على نمط يسهّل تدريجيّاً الرسوخ في القاعدة الصحيحة صوتاً وقراءة وكتابة.
ولا بدّ أيضاً من الإشارة إلى الأسلوب بالذوق الذي يستحدث طريقة (تلميع) الكلمات، لتدخل القلب والعقل والفكر دفعة واحدة، فتنمو اللهفة، ويزيد الإقبال على حب المعرفة.
فقرب الألفاظ من لغة التداول، وتطعيم بعض الجمل بالكلمات العاميّة السهلة على السمع والفهم والحفظ، قد أسبغا على الكتاب نكهة لذيذة تفتقر إليها الغالبيّة من الكتب المعدّة خصيصاً لتدريس اللغة العربيّة.
وبصورة إجماليّة أجد أن كتاب (دروب القراءة) على سلاسة لغته وبساطتها، غنيّ بتنوّع مفرداته وصوره والقواعد، متين السبك، أنيق الطباعة، سليم العافيّة، مشوّق وغزير المواد. لك تهنئتي وتمنيّاتي القلبية.
**
شكراً لك يا كلارك
ليكن للتاريخ هذا الحلم الأبيض، وليكن للحياة ذلك الحسّ الإنساني النقي.
أنا هنا واحد من جنود القلـم، وخادم في رسالة الكلمة، أسجّل لك ذاك الحلم، وأشهد بنقاوة هذا الحسّ:
شهادة تدين الظروف التي اقتلعتنا من أرض الوطن، لترشّنا في منافي الأرض.
وشهادة تتحدّى الذين ساعدوا هذه الظروف على الإستقواء، لتشتد أخطارها وتتفاقم، فتجرّ الويل والدمار على شعبنا.
وسجلاً يعلن ويؤكّد أن لا قوّة في الأرض، مهما طغت واستبدّت لا تستطيع أن تجرّد الشعر من الطاقة الإنسانيّة، أو تقتلع الشاعر من وجدانه القومي.
في مصهر الألـم يعتمد الشاعر، ويطلع الشعر لهباً إنسانيّاً، من مسؤوليّته أن لا يصوّر العالـم، أو يكون مرآة الزمن، بل أن يخلق عالماً جديداً أفضل، ويبني زماناً أرقى لا يولد إلاّ ببال العباقرة.
والذين يرون في الشعر صورة الحال، لا يرون في الشاعر إلاّ عدسة تدور على أرصفة الزمن، تلتقط الرسوم والأشكال والألوان، وتزوزق بها واجهة الأيّام.
هكذا شعر لا يصلح إلاّ لسلال النفايات. وهكذا شعراء يسقطون في حساب الحياة.
فالشعر، وإن موهبة في كثير من وجوهه، هو معاناة أشبه بمعاناة النبوّة، مهمّتها الخلق والإبداع. وهو فنّ في تخمير الطاقة الإنسانيّة لتتفجّر وتنطلق أملاً ورجاء وفعل حياة.
والشاعر ليس إزميلاً، أو مظهّراً، أو آلة تسجيل. إنه غليان هذه الطاقة الإنسانيّة، وبعثها إلى الوجود، ناراً تأكل الهذيان، ونوراً يسحق عتمة الليل.
ومجد الكلمة أن تدخل ذاكرة التاريخ، غير أن هذه الذاكرة قد تصبح عرضة للصدأ والانحلال إذا ما بقيت مجرّد مرور على خيوط الريح.
وكأنّي بك، يا كلارك، قد أدركت هذه الحقيقة، فعمدت، بتجرّد وإخلاص، إلى لملمة ونقل هذا المرور من خيوط الريح إلى خزانة الفكر، فكانت سلسلة "شربل بعيني بأقلامهم"، وقد صدرت منها مؤخّراً الحلقة الرابعة.
لا أتوخّى في هذه العجالة تشريح وتحليل ما كتب في شربل وعنه، فإذا كانت المحبّة تغمر الجراح بالظلال، فإن هذه المحبّة عينها مسؤولة، ضميريّاً، عن تكوين فكرة صادقة، ورسم صورة حقيقيّة عن طبيعتها وحجمها وقيمتها. وهذه، في شربل، لـم تكن يوماً ملكاً له، خاصّاً به، مجرداً عن كونه شاعراً يتلذذ بفوح جراحه النازفة ليضمّد جراح الوطن، ويعالج نزيف الإنسان، بل كانت، ولا تزال فيه وله، لأنه بأسلوبه وطبيعته، بعفويّته ونسيجه، شاعر تخطّى الحواجز والقوالب الجامدة، وتجاوز الطقوس والتقاليد، وتحرّر من فزلكات البيان، ليغزل من أحاسيسه، وملامح نفسه، وغليان طاقته، لباساً خاصّاً، لا يعترف بمدرسة إلا مدرسة الشعر.. لأنه الشعر.
أن تحب شربل أو تكرهه، هذا لا يهم، المحبّة لا تشترط، والكره لا يدّخر إلا الباطل.
أهم من كل ذلك أن شربل بعيني موجود، وله دوره وآفاقه، وله رسالته. ولقد فرض وجوده في خطّ النار، في غليان الطاقة الإنسانية الغنيّة بالعطاءات التي طلع منها الشعر والشاعر شربل بعيني.
أنت واحد تقوم مقام مؤسسة، عملك رسولي، شكراً لك يا كلارك.
صدى لبنان ـ العدد 643 ـ 25 نيسان 1989
**
أرى وجهاً آخر.. وجهاً آخر للحياة
إلى كلارك بعيني
كأنّما أنت، والكلمة، من ميرون واحد في معموديّة واحدة. أنت تقترب من الربيع، تنصهر فيه، وهي تذوب في الضوء، تتوزّع على الكون، منارات ومشاعل.
أنت من حريق القلب، تتفجّر لهباً إنسانيّاً يعيد إلى التراب طبيعته الخالدة، وهي من ولوع النفس إشعاع يغمر وجه اللـه.
بعضنا يا كلارك، يرسم الكلمة بالحبر، وبعضنا يكتبها بعرق الجبين، وهناك من يلوّنها بالدم، وآخر يزركها في المعاناة.
أما أنت فتقطفها من النار، تترهّب لمسؤوليتها كما النسّاك في عصمة الهيكل، وتتحد في رسالتها كُلاًّ واحداً لا ينفصل عنها، كما رسوليّة بالمجد السماوي، وتستحمّ في شلاّلات ضيائها، كما العمالقة في روحانيّة الصباح، ثـم تجهد في تنسيقها وبلورتها وإنضاجها لتبقى حيّة متوهّجة، على غير انفعال، كما المؤسسة في فرد.
عَنْوِنْ هذه الصفحة. روح النشوة تتجسّد في أغاني الرياح للشجر، تنتزع من نفسها بداية الكون، وتخلص إلى فرح الأشياء التي يتجدّد وجودها فوق الوجع والجوع والعذاب، إلى الوجد الإلهي في البديهة الخلاّقة المبدعة.
لا تتوسّل الغطاء الفضّي، فالورود كالنجوم ترفض أن تستر عريها اللاذع، وضدّ كل الأمواج وكل الضباب، تربح الزمان والمكان في ذاكرة التاريخ حيث يكبر الجميع، ما عدا الذين تخلّوا عن روح الحقيقة في صناعة التاريخ.
انفض صدأ الأيّام عن أشجار الأدغال لتتوهّج فيها حروق الأجيال، ويتعالى الموت حتّى تمام الحياة. البرق الذي يتصاعد من جراح العمر يبقى أفضل من الغيمة التي تغتال وجه الأرض. والضوضاء التي تتحرّك في الأعماق خير من سكوت المومياء والقبور.
الصاعقة تزنّر القمم وتلتفّ على نفسها، فلا تخنق من النوافذ إلاّ ذهول العميان، ولا تطفىء من القباب إلاّ ظلال الشرود وتلاشي الضياع. وكلّما ارتمت مسافة الانغلاق، اتسعت مساحة التفتّح، تتحدّى مساكن الوحشة والظلام المخبّأة تحت عتبة الضلال.
غريبة كل المظاهر المكلّسة بتوابيت العار، تنقرها العصافير فلا يطلع منها إلاّ سعال العاصفة، وبكاء الهاوية المفرط في الهذيان. أوَ ليس الجنوح المهووس إلى الطليعة تذكاراً أبدياً إلى افتراس العقل واستنساخ الفكر في بال النسيان؟
ليست روح النخوة التي فيك هي التي تضيء لك الدروب، بل روح المسؤوليّة التي تشيلك وتحطّك في خطّ النار. الرغبة رافعة تاريخيّة، والاهتمام ناموس طبيعي يرمز إلى ماهية الخلق في الإنسان.
هناك يا كلارك، فئة تكتب وتقرأ بالحركات، وأخرى بالصور أو بالأصوات أو بالألوان. وهنالك فئة تتكثّف كتاباتها وقراءاتها بالتجاوبات الإرجاعية فيما بين الفكر والكلمة، بين الرؤيا الواضحة والوهم المتآكل، بين الإنسان ـ القيمة النوعيّة، والكمّ الهارب إلى الفراغ، إلى نعيم الإفراط بالذات.
هذه الفئات ليست كلّها كميّات مهملة، ليست مجرّد قطعة من الحياة تهرب من الحياة، بل هي مولد أوّلي لمنطق الوجدان يتنامى، شكلاً وإيقاعاً وأسلوباً، لما تنطوي عليه الرؤيا الأكثر توتّراً للعطاء. الكميّة المهملة العاطلة هي نقطة الصفر، لأنها مساحة الجمود الأشدّ خطراً على المخزونات النفسيّة وتطوّرها وارتقائها.
في سلسلة "شربل بعيني بأقلامهم"، وقد وصلني منها حديثاً الجزآن السادس والسابع، أرى وجهاً آخر، وجهاً أحلى للحياة، وجهاً متوغّلاً في غابات القلـم الأخضر، يرتعش مع الندى، يتخاطفه إلى سكرات الزهر وأحضان الشمس، يتجذّر فيها أبعد من ضباب العالـم، وأبهى سطوعاً على كل مشارف الزمان.
هذه السلسلة وإن تكن، على المدى الضيّق، من خصوصيّات شربل، فهي على المدى الواسع في آخر الصمت وآخر البوح، لكلّ حبّة قلم تنخفق في أقصى حدود الحياة بشوق العبور من غياهب الليل إلى وضوح النهار. إنها قضيّة الأدب وقضيّة المختصّين والمهتمّين بقضايا الأدب.
عندنا يا صديقي من يحاول أن يخطف، ومن يحاول أن يقتل، ليعيش بعد الخطف مخطوفاً، وبعد القتل قتيلاً.
أما الشاعر شربل بعيني فلا ينافس، لأنه بلغ مستوى فرض المنافسة على الآخرين. ولا يتشاوف لأنه ليس فارغاً. خزانته تضجّ بالثروة، ويداه أبداً مفتوحة، لتعطي لا لتأخذ. إنه كالسنابل الملأى التي تنحني بتواضع، بينما السنابل الفارغات رؤوسهنّ شوامخ.
يلغي ذاته أولاً من يحاول إلغاء الغير، "كالنار تأكل بعضها إن لـم تجد ما تأكله”.
كل نكرات الأرض لا يمكنها أن تتجاوز المعرفة، وكلّ آلات الزمن الساقط لا تستطيع أن تشكّل حيزاً واحداً في مساحة الحياة الممتدة على مدى الألق الفكري.
ومن الآن إلى نهاية النهايات سيبقى الشعر صوت الحبّ، وسيبقى الأدب ضمير الكون، وليس كثيراً على شربل بعيني أن يبقى صلة الوصل بين الحبّ والكون.
سلمت يداك يا كلارك، ولك منّي أطيب التمنيّات.
البيرق ـ 29 تشرين الثاني 1990
**